بقلم د/ سماح عزازي
في زمنٍ باتت فيه الحقائق سلعة، والتاريخ مسرحًا للهوى، يغدو السؤال عن صدق ما نُقل إلينا من وقائع لا ترفًا فكريًّا، بل ضرورة وجوديّة. فالذي نسمّيه "تاريخًا" كثيرًا ما يكون محض روايةٍ كتبها المنتصر، أو أملتها مصلحة، أو صيّرتها الأهواءُ مرآةً لعصرٍ لا يريد أن يرى وجهه القبيح.
لقد أدرك المفكر جورج أورويل هذه الحقيقة حين قال: "من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي". إنها معادلة مخيفة، تختصر فلسفة التزييف بعبارة واحدة. إن التاريخ لا يُكتب بالحبر وحده، بل يُنقش بدماء المقهورين، ويُشكّل بأقلام المتنفّذين، ويُلوَّن بألوان السيادة لا الحقيقة.
لقد قرأنا عن أممٍ عُظِّمت في كتب التاريخ، لا لأنها كانت
عادلة أو متحضّرة، بل لأنها انتصرت في الحروب، أو أحكمت السيطرة على أدوات التدوين. وقرأنا عن ثوراتٍ وُصفت بالخيانة، لأنها سعت لتحرير الشعوب من القيد، فاستحقّت التزييف لا التخليد. وكم من نبيٍّ شُوّه في كتب الملوك! وكم من شعبٍ سُحق تحت عجلات الكذب والتضليل، ثم قيل إنه استحقّ مصيره.
هل نعيش في كذبة؟
سؤالٌ قد يبدو ساذجًا في ظاهره، لكنه يحمل في طيّاته من العمق ما يُربك العقول. ألسنا جميعًا نعيش داخل سرديةٍ اختارها لنا كاتبٌ مجهول؟ ألسنا نُربّى على أن نُعظّم هذا الحاكم ونلعن ذاك، دون أن نملك أدوات التحقق؟ إن الكتب المدرسية، والمنابر الإعلامية، والوثائق الرسمية، قد اتفقت – في كثيرٍ من الأحيان – على صياغة وعيٍ مزيف، يُغنّي لماضٍ مخلّق، ويصمّ الآذان عن صرخات الحقيقة.
ويكفي أن نستدعي ما قاله نابليون بونابرت: "التاريخ هو مجموعة من الأكاذيب المتفق عليها"، لنفهم أن الزيف ليس طارئًا، بل جوهرٌ في بنية السرد التاريخي حين يفقد صاحبه الضمير.
وسائل التواصل نور الحقيقة أم مرآة الزيف الجديد؟
حين بزغ فجر العصر الرقمي، وفتحت وسائل التواصل الاجتماعي أبوابها لكل من أراد أن يروي، استبشرنا بزمنٍ قد تكون فيه الحقيقة أقرب، والوعي أوسع. ظننا أن الكاميرا ستفضح الكذب، وأن المقطع المصوّر سيكون شهادة دامغة لا يمكن تزويرها. ولكن، هل تحقّق هذا الحلم؟
الواقع يقول غير ذلك. لقد تحوّل الفضاء الرقمي من منصةٍ للحقيقة إلى ساحةٍ أخرى للزيف، ولكن هذه المرّة بزخرفةٍ جديدة الفبركة البصرية، والخوارزميات الموجَّهة، والتضليل الرقمي. لم يعد الأمر مقتصرًا على من يملك الجيوش والأقلام، بل أصبح لمن يملك "التريند" و"المشاهدات" و"المؤثرين".
"اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب... حتى يصدقك الناس"، هكذا قيل عن وزير دعاية النازية جوبلز، وهو مَن فهم بعمق كيف تُدار عقول الجماهير، وكيف يُعاد تشكيل الوعي الجمعي بالكذب المنظَّم.
بل إن خطر هذا الزيف الجديد أكبر، لأنه يُقدَّم في ثوب الحريّة، ويُستهلك دون تمحيص، ويُعاد تدويره حتى يصبح "رأيًا عامًّا". وبهذا، لم نخرج من كذبة التاريخ التقليدية، بل دخلنا كذبة أكثر حداثةً وتعقيدًا.
هل سيكون للأجيال القادمة حظّ أوفر؟
ربّما سيسجَّل التاريخ القادم بالصوت والصورة، وستُوثّق الحروب بالدرون، وتُخزَّن الأقوال على الخوادم، وتُدوَّن الاعترافات عبر فيديوهات حيّة. وربما تظنّ الأجيال القادمة أنهم يملكون الحقيقة لأنهم يرونها "بأعينهم" عبر الشاشات.
ولكن، من قال إن ما يُعرض لهم هو ما جرى فعلًا؟ من قال إن الصورة لا تُحرَّف؟ وإن الصوت لا يُعدَّل؟ ومن يضمن أن الرواية المنتشرة ليست محض حملةٍ ممنهجة لصناعة وعيٍ جديد، قد يكون زائفًا، لكنه أكثر اتقانًا من سابقه؟
الذاكرة الرقمية ليست ضمانًا للحقيقة، بل قد تكون مقبرةً لها. فحين يُمسك الزيف بزمام التقنية، يُعيد تشكيل الماضي كما يُعيد تشكيل الحاضر. ويبقى السؤال: من يملك مفاتيح "الأرشيف"؟ من يختار ما يُنشر وما يُحذف؟ ومن يوجّه الخوارزميات؟ تلك هي معركة الحقيقة القادمة.
إن التاريخ، في جوهره، ليس ما جرى، بل ما قُصّ علينا مما جرى. ومع مرور الزمن، قد يغدو الزيف هو الذاكرة الرسمية، ويغدو الصدق همسًا في ظلمة التواطؤ. لن تكون الأجيال القادمة بمنأى عن التزييف، إلا إذا تعلّمت أن تسأل، وتُشكّك، وتقرأ بأكثر من عين، وتسمع بأكثر من أذن.
فالتاريخ لا يكتبه الأقوياء فقط، بل يكتبه أيضًا من يرفضون أن يُخدعوا.
إضافة تعليق جديد