رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 28 أبريل 2024 9:39 م توقيت القاهرة

الترغيب في خلق الحِلم من القرآن الكريم(3)

الباحث /محمد سعيد أبوالنصر 
وردتْ آيات قرآنية كثيرة تشير إلى صفة الحلم، ووصف الله نفسه بالحلم، وسمى نفسه الحليم، ووردت آيات تدعو المسلمين إلى التحلي بهذا الخلق النبيل، وعدم المعاملة بالمثل ومقابلة الإساءة بالإساءة، والحث على الدفع بالتي هي أحسن، والترغيب في الصفح عن الأذى والعفو عن الإساءة.
1- قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }[الأعراف: 199].هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم.  وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199]
العفو: ما أُتي بغير كلفة"مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ، وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَحَسُّسٍ" وَهُوَ الْفَضْلُ وَمَا لَا يُجْهِدُهُمْ  أو{خُذِ الْعَفْوَ} من أموال المسلمين، ثم نسخ بالزكاة، أو العفو عن المشركين ثم نسخ / بالجهاد"
فقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فى هذه الآية أمر الله نبيه بثلاثة أشياء هى أسس عامة للشريعة فى الآداب النفسية والأحكام العملية:
1- العفو: وهو السهل الذي لا كلفة فيه: أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهّل من غير كلفة، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى ينفروا، وهذا كما
جاء فى الحديث « يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا »
وقال الشاعر:
خذى العفو منى تستديمى مودتى ... ولا تنطقى فى سورتى حين أغضب
وقيل إن المعنى خذ العفو وما تسهّل من صدقاتهم.
والخلاصة- إن من آداب الدين وقواعده اليسر وتجنب الحرج وما يشق على الناس،  وقد صح عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الْآخَرِ، إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ» 
2- الأمر بالعرف .
وقَوْلُهُ: {وَأْمُرْ بالعرف} بالمعروف والجميل من الأفعال أو هو كل خصلة يرتضيها العقل ويقبلها الشرع 
3- الاعراض عن الجاهلين .
وقَوْلُهُ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى سُوءِ أَخْلَاقِهِمْ، وَأَنْ لَا يُقَابِلَ أَقْوَالَهُمُ الرَّكِيكَةَ وَلَا أَفْعَالَهُمُ الْخَسِيسَةَ بِأَمْثَالِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُتَنَاقِضِ أَنْ يُقَالَ الشَّارِعُ لَا يُقَابِلُ سَفَاهَتَهُمْ بِمِثْلِهَا؟ وَلَكِنْ قَاتَلَهُمْ وَإِذَا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُمْكِنًا فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ، إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ولا حاجة. 
يقول الشيخ المراغي الإعراض عن الجاهلين، وهم السفهاء بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم، ولا علاج للوقاية من أذاهم إلا الإعراض عنهم، وَقد رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا"، وروى الطبري قال حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أُبَيٍّ، قَالَ: " لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ» ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ " 
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبَرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ. فَقَالَ: "يَا عُقْبَةُ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ".وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْر  عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، بِهِ. وَقَالَ حَسَنٌ 
قُلْتُ: (أي الإمام ابن كثير): وَلَكِنْ "عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ" وَشَيْخُهُ "الْقَاسِمُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، فِيهِمَا ضعف. وأخذ أبو الفتح البستي هذا المعنى فقال:
خُذِ العفوَ وأمرْ بعرفٍ كما ... أمرتَ وأعرضْ عن الجاهلينْ
- ولن في الكلامِ لكل الأنامِ ... فمستحسنٌ من ذوي الجاهِ لينْ
وقال بعض العلماء: هذه الآية قد تضمنت قواعد الشريعة، فلم يبق فيها حسنة إلا وعتها، ولا فضيلة إلا شرحتها.  وهو المنهج الذي سلكه النبىّ مع الناس فى أداء رسالته إليهم، من تبعه منهم ومن عصاه على السواء، وهذا المنهج ذو أصول ، يقوم عليها:
منها : المياسرة والرفق، فى أخذ المؤمنين، بأحكام الشريعة، فلا إعنات، ولا إرهاق فى شريعة الله، التي جاءت رحمة لعباده، واستنقاذا لهم من الهلاك.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ» أي تقبل من الناس ما تسمح به أنفسهم، ويتسع له جهدهم، مما لا يشق عليهم من أمر أو نهى..
وهذا من شأنه أن يوثق العلاقة بين المؤمنين وبين دين الله الذي دخلوا فيه، حيث يجدون منه وجها سمحا مشرقا، يلقاهم بالصفح الجميل إذا هم أذنبوا، ويفتح لهم باب الرضا والقبول، إذا هم شردوا وضلوا، ثم تابوا، وأنابوا إلى الله من قريب.. وهكذا جاءت شريعة الإسلام، رفيقة بالناس، رحيمة بهم.. ليس فيها ما يعنتهم، أو ينكّل بهم، لأنها لم تجىء إليهم نكالا وانتقاما، وإنما جاءت
إليهم رحمة وإحسانا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» (1: إبراهيم) ويقول سبحانه: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (107: الأنبياء) ويقول جلّ شأنه: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2: الجمعة) .. فالرسالة التي بين يدى رسول الله، هى رسالة خير ورحمة، فلا يكون منها للناس جميعا إلا الخير والرحمة، حتى لأولئك المشركين الذين تصدوا للرسالة وأعنتوا صاحبها، حيث لم يأخذهم الله بما أخذ به الأمم السابقة الذين تحدّوا رسل الله، وكفروا بهم، وبما يدعونهم إليه. 
2- وقال-عز وجل -:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134]، ذكرت الآية الكريمة «كظم الغيظ» وهو ابتداء «الحلم» فيكون مدح الحلم من باب أولى. " ومن اتقى الله، كان رحيما بالناس، حدبا عليهم، يلقى إساءتهم بالصفح والمغفرة، فلا يصل إليهم منه أذى، بيد أو لسان.. والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، هم وإن كانوا فى المتقين المحسنين، إلا أنهما درجتان فى الإحسان والتقوى.. فالكظم درجة، والعفو درجة أعلى من تلك الدرجة.. فالذى تلقّى الإساءة وهو قادر على مقابلتها بمثلها ثم أمسك عن الردّ، وكظم فى نفسه ما أثارته الإساءة فى مشاعره من غيظ ونقمة، هو على درجة من التقوى والإحسان.. أما إذا ذهب إلى أكثر منهذا، فمسح ما بصدره من غيظ ونقمة. وأظهر العفو والمغفرة، فهو على حظ أكبر من الإحسان والتقوى.. وأرفع من هذا درجة، وأعلى مقاما فى التقوى والإحسان، من دفع السيئة، لا يكظم الغيظ المتولد منها، ولا بالعفو عن المسيء، بل دفعها بالإحسان إليه  قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] "أي: لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل. ثم قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم مَوجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا من مقامات الإحسان" 
3--وقال تعالى: { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر: 85] أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا، واحتمل أذاهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم.  والصَّفْح الْجَمِيل هو الصفح من غير منٍّ. ولله تعالى ولرسوله المنّ والفضل. وقوله (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ )أَيْ: تَجَاوَزْ عَنْهُمْ وَاعْفُ عَفْوًا حَسَنًا وَقِيلَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ إِعْرَاضًا جَمِيلًا وَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، وَعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الصَّفُوحِ الْحَلِيمِ. والآية "عزاء للنبى، ومواساة له، وربط على قلبه، لما يلقى من عناد المعاندين، وسفاهة السفهاء من قومه.. 
وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت:34]
(أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك. ثم قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35] أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي: ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.
روى الطبري قال  حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] قَالَ: «أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» 

. وللحديث بقية.
 بقلم / محمد سعيد أبوالنصر

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.