رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 27 أبريل 2024 5:31 م توقيت القاهرة

الدكروري يكتب عن الإمام ذو النون المصري " جزء 4"

بقلم / محمـــد الدكـــروري  

وقد يظن البعض أن الصوفية لا تهتم بالمعرفة والعلم المادي، ومن ثم ينصب اهتمامها فقط على الغيبيات والأمور الروحية الخالصة، إلا أن ذي النون المصري ثوبان بن إبراهيم المولود في أواخر أيام المنصور بصعيد مصر، قد وضح وأبان في جانب المعرفة العقلية رغم كونه صوفيا، فقد كان له فضل السبق عن غيره من المتصوفة في بيان أهمية المعرفة لدى الصوفي، وضرورة أن يعتمد عليها في تصوفه الروحي، حيث كانت الصوفية قبل ذي النون ذات طابع عملي فقط تعتمد على خبرة الصوفي ومشاهداته، ومكاشفاته التي ينطق بها من خلال كلمات لا يفهمها الكثيرين من الناس بل أن ما دعا إليه من ضرورة المعرفة العقلية جعله مفتاحا للعبادة الموجهة لله، ومن تأكيدات ذلك أنه عندما سُئل عمن هو الصوفي أجاب "من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق" وقد قال عنه الإمام الراحل عبد الحليم عبد الله في مؤلفه" العابد العارف بالله ذو النون المصري" 

وكما جاهد ذون النون حتى تزكت نفسه، فقد جاهد أيضا في سبيل المعرفة، المعرفة في مجالين على الخصوص وأعترف في تواضع لا أشكر عليه أنني لم أستطع وقد حاولت أن أجاريه في أحد هذين المجالين، وهو مجال الكيمياء، لقد حاولت أن أفهمه في هذا المجال فما أستطعت إلى ذلك سبيلا، ويذكر ابن القفطي أن ذا النون المصري أشتغل بالكيمياء، ويرى أنه وصل في الكيمياء إلى أنه كان من طبقة جابر بن حيان فيها، ويبدو انه عالج الكيمياء على الطريقة الروحية كم عالجها على الطريقة العلمية المادية" ولم يتوقف علم الصوفي المصري عند هذا الحد من المعرفة، بل انه تعلم اللغات المختلفة، من باب الإستزادة المعرفية والعقلية فلقد تعلم السريانية وهي لغة أشتهرت بمترجميها، وباحثيها سواء في التاريخ المسيحي أو الإسلامي وقيل عن ذي النون، بأنه قد سبق شامبليون في فك رموز الحضارة المصرية القديمة ولغتها الهيروغليفية. 

بل أنه له مؤلفات في هذا المجال منها "حل الرموز والأرقام في كشف أصول اللغات" وقد يكون مرجع إهتمام ذي النون باللغة الهيروغليفية القديمة بلدته أخميم التي نشأ فيها، فهي بيت من بيوت الحكمة القديمة وفيها مشاهد غنية لآثار فرعونية حاضرة وقد مارس ذو النون هواية السياحة بسبب طبيعته المحبة للتعلم ومعرفة الجديد، فساح في البلاد المختلفة، وبسبب تلك الخصلة وصفه الدكتور عبد الحليم محمود" ولقد كان ذون النون المصري من أكثر الناس سياحة" وعقب قائلا كذلك" من أجل ذلك ساح ذو النون، ساح طبا للعلم وساح متعبدا، وساح مفكرا"وهو يقول شعرا في هذا الأمر سر في بلاد الله سياحا وابكي على نفسك نواحا، وامشي بنور الله في أرضه كفى بنور الله مصباحا، وقد تأخذك الدهشة الشديدة أيضا إذا علمت أن ذا النون هو أول من وقف من المتصوفة على أصول الثقافة اليونانية، ورسخ لمذهب الأفلاطونية الجديدة.

تلك الفلسفة التي تفوق فيها أيضا فيلسوفا مصريا هو أفلوطين المولود في القرن الثالث الميلادي وتعد هذه الأفلاطونية المحدثة هي التسمية التي أطلقت على هذا النوع من الفلسفة، التي شرحت ووضحت فكر أفلاطون، وذلك منذ القرن التاسع عشر، وقد ارتحل أفلوطين المصري هذا الذي تأثر به ذو النون، من الصعيد إلى الإسكندرية حيث تتلمذ على يد أساتذة كبار في هذا المقام وترتكز أهم أفكار هذه الأفلاطونية المحدثة على الجوانب الروحية والكونية في الفكر الأفلاطوني القديم، مع مزجها بالديانتين المصرية واليهودية وهي تقوم على الوعي العقلاني حيث يقول الأفلاطونيون "أن الله واحد ، وأن العالم يفيض عنه كفيضان النور عن الشمس وإن للموجودات مراتب مختلفة إلا أنها لا تؤلف مع الله إلا موجودا واحدا" ويؤمن ذو النون كما يدعو أنصار الأفلاطونية الحديثة بالوعي المطلق أو الفكر " النوص" كما كان لذو النون مذهبا خاصا في المعرفة. 

والفناء متأثرا بالغنوصية الفكرية، والغنوصية هي كلمة يونانية تعني المعرفة، وقد اصطلح الدارسون على استخدامها لوصف عدد من الحركات الدينية في العالم الروماني القديم، والمشترك كذلك بين فكر ذي النون والأفلاطونية المصرية الحديثة هو نظرتهم الواحدة للوجود من زاوية الوحدة أو الوحدانية او مايقال له إصطلاحا "مذهب وحدة الوجود " وهو ذلك المذهب الذي ينظر إلى الله والعالم في وحدة تامة ويتأثر الصوفية بذلك المذهب حيث يرون بأن العالم مظهر من مظاهر الذات الإلهية، وليس له وجود فى ذاته لأنه يصدر عن الله بالتجلى أو يفيض عنه كما يفيض النور عن الشمس علما بأنه قد أخذ عن هذا المذهب، مذاهب قديمة حيث أخذت به البرهمانية والرواقية والأفلاطونية المحدثة ورغم ما قيل من إهتمام ذي النون بالمعرفة العقلية وركونه للفلسفة، إلا ان هناك من يؤكد من الباحثين أن المعرفة العقلية بعيدة عن معرفة الصوفي، لأن العقل قاصر ومحدود عن معرفة الله عند الصوفية. 

فالله لا يعرف بالعقل الحادث المخلوق، ومن ثم إسشتهدوا لإبعاد فكرة المعرفة العقلية الفلسفية عن ذي النون بالتأكيد بأنه نفسه قال "عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي" فكيف لمن يقول هذا أن يعتمد طريق الحكمة الفلسفية؟ ورغم ذلك فالتقارب فيما بين فكر ذي النون وفكر الأفلاطونية المحدثة، جلب عليه المصائب فقد أنكر عليه الناس في عصره ما يدعو له، ومن ثم نعتوه بالزندقة فقالوا له"أحدثت علما لم تتكلم فيه الصحابة" وسعوا به إلى الخليفة المتوكل ورموه عنده بالزندقة وعندما وقف بين يدي المتوكل، وبعد دفاع ذي النون عن نفسه أمامه، قال المتوكل في حقه"هو رجل بريء مما قيل عنه" وقد عظمه الناس بعد ذلك لما رأوا طيور خضر ترفرف على جنازته، وذلك على حد تعبير المؤرخين الذين ذكروا واقعة موته كما جاء على سبيل المثال في "جامع كرامات الأولياء" للنابلسي، وتوفي ذو النون المصري في محافظة الجيزة بمصر سنة مائتان وخمس وأربعين من الهجرة، الموافق عام سبعمائة وست وتسعين من الميلاد، ودفن في المقطم في مقابر أهل المعافر، وقد ناهز من العمر ست وستين عاما وروي أن الطير الخضر أخذت ترفرف فوق جنازته حتى وصل إلى قبره.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.