المقال الثاني
"حين يسكن الليل أرواحنا... وتُصبح الوحدة وطنًا"
بقلم د/ سماح عزازي
في لحظة ما من كل مساء... يتحوّل الليل من زمن إلى شعور.
نخلع عنّا ضجيج النهار، ونرتدي صمتًا ناعمًا كجرحٍ قديم، نُطفئ الأضواء لا لنسكن، بل لنُحدّق داخل أنفسنا.
فالليل ليس دائمًا مظلمة… بل مرآة للروح حين تتجلى على حقيقتها، على وحدتها، على انكساراتها التي تخجل منها تحت شمس النهار.
في هذا الليل، يتسلّل الغياب على أطراف أنينه،
يجلس أمامنا كما يجلس الحنين المهزوم، ينظر في أعيننا، ويهمس:
"هل تظنّ أنك تجاوزت؟ أنت فقط أجدتَ التمثيل."
الليل لا يُجيد الكذب، لا يُجامل، لا يلهيك كما تفعل النهارات.
الليل يُعيدك إلى الأماكن التي فررت منها، إلى الأسماء التي منعتها عن لسانك، إلى الصور التي طويتها في أدراج القلب وادّعيت أنك نسيتها.
في الليل... نُفتش عن الأصوات التي سكنت آذاننا ذات حُب،
نُعيد تشغيل الرسائل القديمة، نقرأ الحروف المرتجفة التي كُتبت لنا يومًا،
ونتساءل:
"أين ذهب كل هذا؟ كيف يمكن لشيءٍ أن يُصبح ذكرى بهذه القسوة؟"
هنا، في عمق الليل، لا أحد يُراقب دموعك،
فتبكي كما لم تبكِ من قبل،
تضحك كما لو أنك تهرب من الانهيار،
وتُحدّث الغائبين بكل ما لم تجرؤ أن تقوله وهم هنا.
لأن الليل... هو الوطن الحقيقي للقلوب التي غادرتها الأوطان.
في الليل... كل شيءٍ يبدو أكثر عمقًا، أكثر وجعًا، أكثر صدقًا.
الصمت لا يكون صمتًا عاديًا، بل صوتًا مدوّيًا في أعماق القلب، يكشف ما أخفاه النهار من تعب، من شوق، من أسماءٍ غابت دون وداع.
حين يسكن الليل أرواحنا، لا يعود الضوء مطلبًا، بل الذكرى.
لا نطلب النجاة، بل لمسة، كلمة، حضن قديم…
وفي كل ليلة، يتحوّل الليل إلى وطنٍ مؤقت نسكنه وحيدين، نحمل على جدرانه صورهم، وعلى وسادته أحلامنا المؤجلة،
ونهمس له: “خذنا إليهم… ولو في الحلم.”
الليل... مرآة الوجع المقيم
في الليل، يتسلّل الحنين بلا استئذان، كأنه يعرف الطريق إلى أضعف نقطة في القلب.
كل الأغاني تُصبح عنهم، وكل الكلمات تُشير إليهم، وكل الأماكن التي نسكنها تضيق… لأنهم ليسوا هنا.
السرير كبيرٌ جدًا دونهم، والوسادة جافة كأنها لم تعرف دفء البكاء،
والساعة تدقّ ليس لتُخبرنا بالزمن، بل لتُذكّرنا أنهم غابوا في لحظة من لحظاته… ولم يعودوا بعدها أبدًا.
في هذا الليل العميق، لا نُجيد الهروب.
نُفتّش في الذاكرة عن أشياء نُعيد بها ملامحهم،
نضع رؤوسنا على وسائدهم القديمة، ونستنشق ما تبقّى من رائحتهم كمن يشرب الحياة من بقايا روح.
حين تُصبح الوحدة هي الوطن الوحيد
هل جرّبتِ أن تجلسي إلى نفسك في العتمة،
تُحادثين قلبك بصوتٍ منخفض، كأنك تخافين أن توقظي جرحًا نائمًا؟
هل شعرتِ أن كل شيء من حولك لا يعني شيئًا لأن من تحبّين لم يعد هنا؟
هكذا تصبح الوحدة… ليست خيارًا، بل وطنًا يُفرض علينا حين يغيب الأحبة.
نعيش فيه لاجئين إلى الذكرى، مشردين عن الحنين، غرباء حتى عن أنفسنا.
نحمل وجوههم في قلوبنا، نُخبئ ضحكاتهم تحت الوسائد،
نتذكّر مواقف صغيرة: كوب الشاي الذي لم يُكملوه، الرسالة التي لم يرسلوها، النظرة التي كانت تقول أكثر من الكلام… وتُبكينا في صمت.
الغياب الذي يتكلم دون صوت
لا شيء يُوجع كالصمت الذي يتركه الغائبون خلفهم، كأنهم حين غادروا أخذوا معهم ضجيج الحياة، وتركوا لنا سكونًا لا يُطاق.
في كل زاوية من المكان، هناك حديث ناقص، ضحكة مبتورة، خطوة كانت مألوفة وانطفأت…
وفي كل مرة نحاول أن ننسى، نصطدم بتفصيلة بسيطة تُعيد كل شيء فجأة:
رائحة عطرٍ في الهواء، نغمة هاتف، لون مفضل، أو فنجان قهوة بارد يشبه الذي كانوا يُمسكونه.
الغياب لا يحتاج إلى أن يُذكّرنا بنفسه، فهو حاضر دومًا، يتنفس معنا، يسكن في أعيننا، في صوتنا حين ينكسر بلا سبب،
في نبض القلب الذي يتعثر حين يسمع اسمًا كان لنا ثم صار ذكرى.
إنه الغياب الذي لا يموت… بل يتخفّى داخلنا، يُشبهنا، ويسير معنا كظلّ لا نتحرر منه، لأننا لا نريد…
نعم، لا نريد أن ننسى، ولا أن نُشفى، لأن الجراح التي سبّبها الحبّ الغائب، جراحٌ نبيلة… نُقبّلها كل مساء، ونقول لها:
أنتِ ما تبقّى منهم.
الحنين الذي لا ينام
الحنين في الليل لا يطلب إذنًا…
يدخل فجأة، يوقظ كل الذكريات من نومها الطويل،
ويبدأ العرض: وجوههم، أصواتهم، خطواتهم، تلك التفاصيل الصغيرة التي لم ننتبه لها يومًا، لكنها اليوم تُشعل النار في القلب.
في حضرة الليل... تتكلم الذاكرة
في الليل، نخلع أثواب القوة التي ارتديناها نهارًا، ونجلس إلى أنفسنا كما نحن: عراة من التجلّد، مكشوفين أمام الوجع.
نُحدثهم في الغيب، نُعاتبهم أحيانًا لأنهم لم ينتبهوا لدموعنا، ثم نطلب منهم المغفرة، ونبكي كالأطفال الذين أضاعوا يد أمّهم في الزحام.
نفتح ألبوم الصور كمن يفتح قبرًا قديمًا ويُعيد ترتيب العظام، نضع السماعات في آذاننا ونسمع أغنيةً كانوا يحبّونها،
فنجد أنفسنا نغرق في سطرٍ واحد، ونبكي على شرفة الذكرى، ونهمس: "كم كنّا جميلين… لماذا انتهى كل شيء بهذه السرعة؟"
ذاكرتنا لا تُراعي هشاشتنا،
تُخرج المشهد الذي يؤلمنا أكثر، تُعيد اللحظة الأخيرة،
وتُكررها آلاف المرات،
تُظهر لنا اليد التي لوّحت لنا آخر مرة، العين التي ودّعتنا
دون أن تقول "لا ترحل"،
فنختنق بشيء لا نراه، ولا نستطيع التخلص منه… لأنه ببساطة، هو كل ما تبقّى لنا منهم.
في حضرة هذا الليل، تتحوّل الذكرى إلى صلاة،
والحنين إلى نجوى، والغائبون… إلى حضور طاغٍ،
لا يُقاوم، ولا يُقال، بل يُبكى في صمت.
نكتب لهم ولا نُرسل،
نُحدثهم ولا ننتظر الرد،
نُصلّي من أجلهم وقلوبنا ترتجف بالدعاء،
لأننا نؤمن، رغم كل شيء، أنهم معنا… في الهواء،
في الضوء، في الصوت، في الدعاء.
ليل الغياب... ليل لا يُفجره إلا اللقاء
في حضرة هذا الليل، لا ينكسر الضوء فقط، بل نحن.
ننكسر برفق، بصمت، بدموع لا يراها أحد.
لكننا نُحب رغم كل شيء…
نُحب من غابوا كأنهم لم يغيبوا، ونُجالس ذكراهم كأنهم سيعودون غدًا، ونُبقي أماكنهم محفوظة، كأن الحنين وحده يُعيدهم.
الليل لا يُغلق أبوابه في وجوه العاشقين،
بل يُنصت لهم… ويمنحهم لحظة صدق مع أنفسهم،
لذلك، ننتظر دائمًا هذا الليل،
لأنه المكان الوحيد الذي نلتقي فيه بمن فقدناهم… ولو بالحلم.
وفي آخر الليل، حين تخفّ الأصوات، وتذوب النجوم في عتمتها،
نجلس نحن، بكل ما فينا من تعب،
نُمسك بخيوط الذكرى كمن يتشبّث بحبل النجاة،
ونُغمض أعيننا على صورٍ لا تموت، على أسماء ما زالت تنبض في القلب، رغم أن الزمن مضى.
ندرك أن الوحدة ليست دائمًا خواء،
بل أحيانًا تصبح ملاذًا نقيًا لمن امتلأ بالوجع.
نتصالح مع الغياب، لا لأننا أقوياء، بل لأننا تعلمنا كيف نُحبّ من بعيد،
كيف نحملهم داخلنا كدعاء، كأمل، كصوتٍ نردّده كل مساء:
"ما زلتُ أحبّك، رغم الليل، رغم الغياب، رغم الوحدة التي تسكنني منذ أن غادرت."
وهكذا، يُصبح الليل فصلًا من فصول الحنين،
نقرأ فيه قصص الراحلين، ونُعيد صياغة وجودهم فينا،
ونُردّد لأنفسنا بكل ما فينا من دفء وانكسار:
"الوحدة وطن... حين يسكنه من نحبّ
بقلم د/ سماح عزازي
"وفي الغياب، لا نُشفى، بل نتعلم أن نتنفس بالذكرى، ونعيش بالحنين، ونكتب… لنقول لهم: ما زلتم في القلب، رغم المسافات، رغم الغياب، رغم الليل الطويل."
إضافة تعليق جديد