رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الجمعة 10 مايو 2024 6:33 م توقيت القاهرة

العيش بالميزان والمش بالفنجان... {الهــلاليــة}

بقلم الأديب المصري
د. طارق رضوان جمعة
عزفت أعذب الألحان وأطيبها عن الأدب العربي منفرداً ، ثم عقدت بينه وبين الأدب العالمي مقارنةً لا لشيء سوى إظهار التكامل والتناسق والتناغم بينهما. الم أكن المايسترو في عرض هذا؟ بل كنت طائراً مغرداً حين أظهرت أن  حركات الترجمة بينهما والتبادل التجاري أدوا إلى التبادل الثقافي بالإضافة إلى السفر والرحلات . فهؤلاء كانوا أدواتي لا ثبات فكرتي. فهناك الإلياذة والأُديسا التي قُطعت إلى قصص وأجزاء كما هو الحال في الملحمة الهلالية. وفى كلاهما يدفع الثمن المواطن البسيط لماذا؟ لغياب دور الانسان وعدم مبالاته بأمور وسياسة بلاده. فهي يعيش في خواء سياسي. ففكرة المخلص الأوحد فكرة مرفوضة تماماً. لذلك أنسنة البطل الدرامي كانت مطلوبة لتثبت للقارئ أن هذا البطل مهما بلغت قدراته فهو إنسان يُصيب ويخطئ. ففكرة البطل الواحد فكرة تروج للقمع وتجلب الهزيمة فالانتصار بال والتقدم الحضاري بالجمع وليس بالفرد.
فصلاة وسلاماً على الحبيب المصطفى وبالحمد لله نبدأ، ثم بفضل الحب والاخلاص والاحترام المتبادل حتى بين الأعداء نصلح ما أفسده الأخرون
فما هي السيرة الشعبية وما فحوى روايتها؟ و هل التفاخر له وجهان؟ ولماذا قام الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي بجمع السيرة الهلالية؟ وهل تستحق السيرة الهلالية ، كواحدة من السِيَر الشعبية، رعاية اليونسكو؟ هل هناك تشابه بين الزناتي خليفة وما مر به وبين الإمام على بن أبى طالب؟ هل الحب قادر على إصلاح ما افسدته السياسة؟ هل الحب هو سر نجاح وخلود سيرة أبو زيد الهلالي والزناتي؟ هل حصد دياب بن غانم ما زرعه من بطش  وقهر وكبرياء وظلم للعباد ؟ لماذا لم ترتوى السفيرة عزيزة بكل ما حولها من ثراء وبما لديها من جمال؟ هل دائما بداخلنا شيء ناقص نبحث عن استكماله؟ وما فضل التراث الشعبي على الأمم؟
الشعوب التي لا تملك ثقافة شعبية هي شعوب هائمة وضائعة. مثل الأجيال الموجودة الآن وهذا له خطر أن يصبح الشخص مجوفًا بلا ملامح، وسهل الاختراق، ويسهل وقوعه في أية أخطا، ورغم وجود المراكز الحكومية فإنها فشلت، والحل في تضامن المثقفين لحماية هذا الوعي، وترويج الاهتمام بهذا التراث الشعبي ليكون على كل لسان، وفي كل مكان.
«بلد تبيع العيش بالميزان والمش في الفنجان»، بهذا عبَّر الهلالي عن استغرابه مما لاقاه في بلبيس، فقد  استشاط أبو زيد غضبا فهو لا يتصور أن توجد في الدنيا هذه الحالة، هو بحث عن المثل والأخلاقيات.. المشكلة ليست التخلف في مواجهة التحضر. بل مشكلة المُثل. هناك مقارنة موجعة فهو يقول لهم إنه شاعر معتقدًا أنهم سيسارعون إلى إكرامه، لكنه يكتشف أن التاجر يلزمه بدفع المال مقابل العيش الموزون. ولكن كيف يجود عبد فقير! كيف يجد وقت لتذوق الشعر ودراسته وهو في امس الحاجة لكسرة خبز أو جمع مال لتربية اولاده! فعذراً يا هلالي ربما هى  الفاقة والعوز أو يمكننا القول بأن لكل رأي وجاهته فللعرب منطق  في صحاريهم وللمصريين منطق في مدنهم.
وفى بداية الأمر وحين ينشد الراوي على ربابته السيرة الهلالية يتمايل الأطفال، والشباب، والنساء، والعجائز طرباً .  وما زال صوت ربابته وجمال الإنشاد بذاكرتي يغمرني بالسعادة . فالسيرة الهلالية تعرض صنوف من الحكمة في مواجهة الأخطار ورفض الانقسام والحث على الترابط والوحدة في أسلوب قصصي شيق. وقد أدرجت السيرة على قائمة روائع التراث العالمي برعاية اليونسكو والجمعية المصرية للمأثورات الشعبية بين عامي 2005 إلى 2007، وجمعت رواياتها المتعددة. وقد جمع عبدالرحمن الأبنودي السيرة الهلالية من أفواه الرواة، أغنيات مستوحاة من السيرة الهلالية وبالأخص قصة عزيزة ويونس، والتي غناها المطرب محمد منير، لتخرج في النهاية عملًا تتجلى فيه الحكمة الشعبية العربية، حيث كان الحب هو جوهر الحكاية، وقد جمع الأبنودي زحف قبائل بني هلال، من نجد ، ليستقروا في تونس بحثًا عن حياة أفضل، وكان عددهم نحو ٣٦٠ ألف مقاتل، ونقل الأبنودي عن "ابن خلدون" أن القبائل زحفت إلى مصر في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله نتيجة للجدب، فيما مثلت الدراما العربية المصرية والسورية في مسلسلات درامية هذه الملحمة .
الثقة بالنفس معركة ضد كل مضاعفات الهزيمة ولا أعتقد أن التفاخر ينشأ في أمة فتية، فهو لا نجده إلا حينما يكون الواقع مُزري ، كنوع من التعويض لا أكثر. فالتفاخر بالعائلة مثلاً يُعتبر قضية ثانوية هامشية إن كان الواقع مزدهر و المجتمع متحضر ، بينما يُعتبر أساسي بل مصيري عندما يتشوه الواقع و يتخلف المجتمع. فأعلى هيئة للذكاء الإنساني هي مراقبة النفس من دون أحكام. فليست عزة النفس لساناً ساخراً وطبعاً متكبراً. وهذا ما أهلك الكثير والكثير من العظماء عبر التاريخ. فلا يُهلك الإنسان إلا بما يعشق. والتفاخر والغرور أفة مدمرة.
أَمَتُّ مَطامِعي فَأَرَحتُ نَفسي فَإِنَّ النَفسَ ما طَمِعَت تَهونُ
وَأَحيَيتُ القُنوعَ وَكانَ مَيِّتاً   فَفي إِحيائِهِ عِرضٌ مَصونُ
إِذا طَمَعٌ يَحِنُّ بِقَلبِ عَبدٍ  عَلَتهُ مَهانَةٌ وَعَلاهُ هونُ  (الإمام الشافعي)
المدح الحقيقي هو الذي يقوله العدو في حقك. وهذا ما وجدناه في القصص الشعبية ومنها قصة أبو زيد الهلالي وعدوه الزناتي خليفه. فعلى الرغم من كونهما أعداء إلا أن كلاً منهما يشهد بشجاعة وفروسية الأخر. فمنذ نهايات القرن الخامس الهجري وحتى الأن ، نعود ونسترجع الحكمة خلف قصة يونس الهلالي والأميرة عزيزة. قصة الحب الذى استطاع تغيير مصير شعوب وأمم. فالروايات والأساطير الشعبية ليست للترفيه فقط وإنما هي قوة نفسية وحيلة دفاعية فردية أو جماعية لمواجهة محن وشدائد ، لمواجهة تجاهل وتهميش، فهي أحلام تعبر عن أجيال مختلفة عبر التاريخ.
قصة الهلالية تعبر عن الحلم بأمة عربية متحدة قوية. أبو زيد الهلالي البطل المشهود له بكل ما هو جميل هو رمز لأصحاب الحقوق المهدورة حيث  تبدأ قصته بإنكار نسبه من قبل أهل أبيه رزق بن نايل واتهام أمه خضرة بالزنا وطردها من مضارب القبيلة وابنها لم يتجاوز 7 أيام، فتربيه أمه على الفروسية والحق من صغره بعد أن تلجأ لحاكم مدينة العلامات الملك فاضل الزحلانى وتظهر على أبوزيد علامات النبوغ وهو طفل صغير مثل كل أبطال الملاحم الشعبية، ويستطيع في طفولته أن يخوض صراعا مع بنى عقيل أعداء أهله بنى هلال، حتى يستعين مشرف العقيلي على أبوزيد بعدد من فرسان بنى هلال ومنهم عم أبوزيد الأمير عسقل الذى ساهم في طرد خضرة الشريفة من مضارب الهلالية ويحارب أبوزيد فرسان الهلالية ويقتل عمه الظالم عسقل ويأتي لأمه بحقها بعد أن يعنف أباه الأمير رزق بن نايل ويحكم على بنى هلال أن تعود أمه خضرة الشريفة على بساط من حرير تأكيدا لبراءتها.
تتوالى مغامرات البطل أبوزيد الهلالي ويخوض تغريبة طويلة مع بنى هلال عندما يرحلون غربا بحثا عن المرعى بعد ثماني سنوات من الجفاف لتتوالى فصول سيرته ليرحل إلى تونس ومعه أبناء الأمير حسن وهم مرعى ويحيى ويونس وتتوالى القصص الفرعية من مقتل مرعى وحب يونس لعزيزة والصدام الكبير بين أبوزيد وحاكم تونس الزناتي أو حسب الرواية الشعبية الزناتي خليفة وتقوم الحرب بين بنى هلال وحلفائهم قبائل الزغابة من جهة وبين بنى قابس بزعامة خليفة الزناتي وأشجع فرسانه المسمى بالعلام من جهة أخرى بعد أن رفض الزناتي أن يحصل بنو هلال على المرعى في أراضيه، لينال جزاءه مقتولا على يد دياب بن غانم كما تنبأت سُعده الزناتي.
معارك البطل أبوزيد الهلالي من أقصى الشرق في صحراء الجزيرة العربية مرورا بالعراق إلى الغرب في تونس الخضراء تجعل منه بطلاً شعبيا، قادرا على جمع العرب شرقا وغربا على شخصية البطل العادل الذى يستطيع تحقيق أحلام الأمة بإرساء العدل ونصرة المظلوم ورد العدوان، وإعلائه قيمة الحب، الجانب الوجداني الضروري لاستمرار الحياة.
كما أن السيرة الهلالية التي يتم إنشادها تعطي الزناتي من أبيات المدح في مآثره وشجاعته وجسارته ما يفوق الجميع: يختلف منظور السيرة حسب زاوية النظر، الرواية في الشرق بطلها أبو زيد الهلالي سلامة، الفارس الأسود، الذي تتهم أمه في شرفها لسواده وهي التي دعت الله أن يهبها غلاما يماثل الطائر الأسود القوي الذي رأته واختارته. في بلاد المغرب الزناتي يظهر أقوى وأروع آيات البطولة، ثم المقاومة بعد الاحتلال، وهو نموذج البطل الشعبي المناضل في السيرة. فالروايتان لا تقللان أبدا من قدر بطولة البطل الآخر، مع الاحتفاظ  بكونه العدو. بل إن الرواية المغربية تعطي أبا زيد من الأوصاف والمقدرة والبطولة ما تجعله لا يهزم البشر فحسب بل الجان كذلك. كما أن الرواية الشرقية تعطي الزناتي من أبيات المدح في مآثره وشجاعته وجسارته ما يفوق الأخرى، كذلك فإن كلا البطلين لا ينكران قيمة الآخر، بل يكيلان المديح لبطولة الآخر.
تاريخيا، يؤكد المؤرخون أن أحداث السيرة الشعبية للسيرة الهلالية حدثت في زمن الدولة الفاطمية. ولا تنقلنا السيرة الهلالية لمصر وتونس الخضراء بل تحوي بلدان عربية آخري مثل العراق ،مما يجعلها ذاكرة العرب الخالدة وخاصة حين تتحدث عن أيقونة العشق والغرام الفارس عامر بن ضرغام الخفاجي، حاكم بلاد العراق، وضرغام هو ملك العراق الذي قرر استضافة أبو زيد الهلالي، وأولاد أخته يحيي ومرعي ويونس، وهم في رحلتهم الشهيرة لروضة غرب تونس، بصفتهم شعراء، ولم يبال ضرغام عندما أخبره والده بأن اليهود على مشارف مدينته لاحتلالها واغتصاب ملكه وهدم عرشه، بل هدأ من روع والده وطالبه بأن يستمع للضيوف الشعراء في مجلس المغني والطرب.
المدهش والمثير أن الفارس المغوار ضرغام، الذي لم يهزم في معركة قط، وأثناء استضافته لقبائل العرب في طريقهم لغزو تونس الخضراء بلاد الزناتي خليفة، وقع في غرام "وطفة"  بنت الأمير دياب بن غانم، فقرر ترك ملكه وأهله وقرر اللحاق بركب العرب والانضمام لكتيبة الفرسان المقاتلين في طريقهم لتونس، بعدما أيقن أنه سبيله الوحيد لخطف قلب بنت أمير قبيلة الزغابة، تنفيذًا لنصيحة الجازية شقيقة السلطان حسن الهلالي له، فكان له ما أراد.
وفي تونس الخضراء وغيرها من البلاد العربية كان العشق والغرام أيضا، فتقع "سُعدى" بنت الزناتي في غرام مرعى الهلالي. وكانت "سُعدى" تؤمن بعلوم العرافة حيث تقول السيرة الهلالية أن أبيها الزناتي سيقتله عربيا قحطانيا يمنيا مثله وهو ما تم بعد ذلك.
والسيرة الهلالية هي الأكثر رسوخًا في الذاكرة الجمعية. وتبلغ نحو مليون بيت شعر. وإن أضفى عليها الخيال الشعبي ثوبًا فضفاضًا باعد بين الأحداث وبين واقعها، وبالغ في رسم الشخصيات.
السفيرة عزيزة هي عزيزة بنت السلطان معبد الوهيدي سلطان تونس. ويقال ان السلطان معبد عشق ابنته عزيزة عشق مجنون . حتى انه أتى بكل الفقهاء من كل المذاهب ليجيزوا له الزواج بها . الا انهم جميعا رفضوا ان يجيزوها له وانتهى الأمر بمقتلهم جميعا . ولما يأس السلطان من زواجه بابنته . سجنها في قصر عال بوسط المدينة. واقام تحت قصرها الأسواق والنوادي ..وساحات  الفروسية حتى لا تشعر بالضجر.
الأميرة عزيزة كانت ذات جمال باهر وثقافة واسعة، مما جعلها مطمعا لكثير من الأمراء الذين خطبوا ود والدها السلطان معبد بالهدايا الثمينة وعروض الولاء، وكان الوالد ينظر إلى عزيزة كأنها سلعة غالية يستطيع من خلالها تحقيق بعض المكاسب السياسية والمادية، خصوصا أنه تقدم في السن وأصبح مريضا، وبحسب عبد الحكيم كانت الأميرة عزيزة ترفض كل ذلك وتبحث عن الحب عن رجل لا يشتريها بهداياه وعروضه بل رجل تدفع حياتها ثمنا لقربه.
اما يونس فهو هذا الولد الجميل الصورة، المعتدل القوام ، بهي الطلعة ضاحك الوجه ، من سكان الحجاز في قبائل بني هلال امه تكون شيحة بنت رزق بن نايل زعيم بني هلال. وخاله هو ابو زيد الهلالي ..ابو زيد بن رزق بن نايل الهلالي.
كانت مضارب بني هلال مثمرة وكان الجميع في حماية ابو زيد الهلالي ...وكانوا يعيشون في رغد حتى اصاب الجدب الأراضي . وأقحلت الوديان .في هذا الوقت أتى إلى ديوان الحكم شاعر يمدح الملوك والفرسان  وأثنى على الأمير يونس ومدحه . ولما كان الكرم من عادة العرب ، ولما كان الأمير قد اصابه الفقر كما اصاب الجوع. فقد قرر أن يهدي الشاعر جاريته المحببة لقلبه . اخذ الشاعر الجارية وذهب بها الى مصر.
نعود الى تونس حيث السفيرة عزيزة تجلس في شرفة قصرها ، وقد خبا جمالها وانطفأ البريق في عينيها . فأشار المستشارون على السلطان معبد الوهيدي أن يشتري لها جارية تؤنس وحدتها ..وتسليها بالأقصوصات والطرب والشعر . فأرسل على الفور السلطان معبد رجاله ليبحثوا له عن الجارية التي تؤنس ليل محبوبته وعشقه الوحيد (ابنته)
ذهب الرجال الى كل الموانئ حيث حركة التجارة بما فيه الرقيق . وانتهى بهم المطاف بالإسكندرية ، حيث رأوا جارية الأمير يونس ، فائقة الحسن ، يكاد الذكاء يقطر من عينيها . فاشتروها من الشاعر وعادوا بها الى تونس ، الى قصر السفيرة عزيزة .
وفى قصر السفيرة عزيزة تحكى العرافة للأميرة نبوءة ومواصفات فتى ستقع الأميرة في حبه. وبحضور جارية يونس الهلالي تؤكد الجارية للأميرة أن هذه المواصفات تنطبق على أمير بنى هلال الأمير يونس. ويدخل الدلال ومعه عقد ثمين يعرضه على الأميرة لتشتريه. وتُعجب الأميرة بالعقد وتسأل عن صاحبه، فيصف الدلال للأميرة نفس المواصفات التي أخبرت عنها العرافة من قبل، وتطلب الأميرة رؤية الشاب الذى أراد بيع العقد ليساعده هو واخوته وخاله على العيش وشراء الطعام والشراب وهم في رحلتهم الاستكشافية لأرض تونس. وحين أتى الأمير للقصر بدأت قصة حب كبيرة بينه وبين السفيرة عزيزة. لكن الزناتي علم بتدبير مكيدة ودخول غرباء لبلاده، فأمر بحبس الأمير ومن معه وتحفظ على الأميرة بقصره.
وهنا نلفت النظر إلى أن الزناتي لم يقم بهذا بناءً عن رأيه الخاص وإنما هو ضحية لمكر ونصيحة "العلام" ابن عمه الذى كان يطمع في حكم تونس وأخذ مكان الزناتي. وهذا حال العرب الغيرة والحقد وتدبير المكيدة بدلاً من الاتحاد. وصار الزناتي امام نارين: جيش الوهيدى الذى غضب من أجل ابنته وجيش الهلالية الذين ثاروا لتحرير امرائهم وأولادهم.
وجه التشابه بين الإمام على بن أبى طالب وبين الزناتى:
تأتى جحافل الهلالية لتجتاح تونس بأبطالها الذين عرفهم الناس وألفوهم وفخروا بأفعالهم، حتى الجازية أخت السلطان حسن يأخذونها من زوجها، ويقف الزناتي وحيدًا ليدافع عن بلاده؛ فكأنه يردد: «الروم حيث تميل، يقاوم طعنات ثلاث: العدا، وخيانة الأهل، وكبر السن: ألا جولي في سن تمانين/بعد الكب ما فاح من عيوني/ ولاد عمى الدنيين/ أشور شورتي يخالفوني» فهل استدعى الراوي الشعبي سيرة الإمام على وهو يصرخ فى جنوده: «فَيَا عَجَباً عَجَباً وَ اَللَّهِ يُمِيتُ اَلْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ اَلْهَمَّ مِنَ اِجْتِمَاعِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَ لاَ تُغِيرُونَ وَ تُغْزَوْنَ وَ لاَ تَغْزُونَ وَ يُعْصَى اَللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ في أَيَّامِ اَلْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ اَلْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا اَلْحَرُّ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِى اَلشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ اَلْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا».
«ضدان لما استُجمِعا حسنا/ والحسن يظهر حسنه الضدُ» هكذا كانت العلاقة بين الزناتي وأبو زيد. من هنا يصبح عصيًّا على السيرة أن تجعل أبا زيد يقتل الزناتي، وإلا تشوهت فروسيته؛ فهذا شيخ طاعن فى السن تجاوز المائة بأربع سنوات فى رواية، واقترب منها بست سنوات فى رواية أخرى، وأربعة عشر عامًا على صهوة جواده، دون ابتسامة، أما نومه فمملوء بأحلام الدفاع عن مدينته الحلم تونس الخضراء. لكن من يجتمع فيه القرب والخيانة معًا؟ إنه دياب بن غانم، فارس بلا قلب، يبقر بطون الحوامل، يمثل بضحاياه، يشعر دائمًا أنه أفضل من أبى زيد وأحق من السلطان حسن.. وسيكون له بعد الزناتي أن يثبت أنه ذئب هجام؛ يستولى على عرش تونس ويجبر السلطان حسن والهلالية على دخولها تحت رمحها، ومن لا يعبر تحته يُقتل، ثم سيقتل السلطان حسن وفى رواية سيقتل أبو زيد نفسه.
أبو زيد رمز للوعي والمستقبل، ويكاد هو والزناتي يكملان صورة العربي؛ فأحدهما يهاجم ومعه مجموعة من الطامعين الذين تحركهم الأطماع، والزناتي يدافع ومن حوله متخاذلون. لهذا هُزم كلاهما.
ويسقط الزناتي في المعركة لا عن ضعف ولا عن قوة خصم، بل بتضافر أسباب عديدة على مدى السيرة، فمكايد أبى زيد لم تنتهِ، وخيانات أبناء عمومته لم تتوقف، يسقط الزناتي فيحاول سادة الهلالية أن يخففوا مما فعله؛ فيندفع أبوزيد مبعدًا رمح دياب عن عين الزناتي رافضًا التمثيل بجسده: «ابعد الحربة عن عين الراجل يا ديب» ويحتضنه السلطان حسن، وتدعو له الجازية بالسلامة، لكن الزناتي يحزن لهذا القرب الموجع: «من قلة الحنا وقعنا ع الجفا/ وخدنا من دار العدو حبيب» ويقول: «دياب يطعني وحسن يلمني/ وأبو زيد يعمل لى للجروح طبيب/ شكيت اللي جرى لي/دمعى نزل منى صبيب»
إلى أن الروايات لم تشر صراحة ان كانت عزيزة تزوجت من يونس في نهاية المطاف، خصوصا مع تشابك الأحداث بعد سيطرة دياب على تونس وبطشه الشديد في التعامل مع الأسرى، وأخيرا دخوله في حرب مع أبناء عمومته ومقتله في النهاية، إلا أن عزيزة ضربت أروع الأمثال في التضحية من أجل حبيبها يونس، حيث قايضت حياة حبيبها بحرية وطنها، لينتصر الحب على السياسة.
لماذا فشل الحب في إصلاح ما افسدته السياسة؟
السياسة تُفرِّق ولا تُوحد، فلدينا انقسامات وتحزبات، وكأننا في عصر القبائل البدائية التي تُغير على بعضها البعض، فغاب الحب وغابت النخوة وأخلاق الفروسية. فأين الحب؟ الانقسام جعل كل دولة قبيلة، وكل قبيلة تبحث عن سطوة وهيمنة. فنحن إن أنتصر أحدنا حقدنا عليه، وإن انكسر تركناه ينازع الموت وننفض من حوله.
فإذا ما قرأت عن بطل خارق في ملحمة ما وقد تعرض للهزيمة ، فاعلم أن للكاتب هنا رؤية وهى أنسنه البطل الخارق متعدد الحيل والدهاء ليظهر في صورة بشرية يمتلك نفس مخاوف البشر. فهو وببساطة رمز لوطن مستضعف شريد. فإن كان البطل نفسه يبدو في وضع منهزم ومخزى، فما بالك بحال الشعب نفسه من حوله وما بهم من خيانة وغدر وضعف.
وتكمن روعة الملحمة الهلالية في أنا توضح للعالم كله كيف أن الدور النسائي فيها فعال ومثمر فشخصيات عديدة ظهرت في الملحمة مثل خضرة الشريفة وناعسة العجاجية والجازية. الجازية شديدة الجمال والذكاء وواسعة الحيلة، والتي حاولت تخليص القبائل في تغريبتهم من مآزق كثيرة، ولها هيبة الرئاسة والزعامة؛ فقد كان لها ثلث الشورى.
ولك ان تعي ذلك حين تدرك أن هناك علاقة بين العمود المثبت في الأرض الذي تلف حوله دائرة الساقية وبين بطلة السيرة الهلالية؟ هذا العمود يشبه العمود الفقري للإنسان، ويسميه الفلاحون الجازية. حتى شخصيات تونس؛ فسعدى أشبه بالمتنبئة وهي مشيرة على أبيها الزناتي، وحين تحكي لأبيها حلمها بمقتله فهي تصور شيئًا بديعًا ببراعة.
ولكن هناك فرق بين حب نساء تونس وحب الجازية: فالجزية حبها لوطنها فاق كل حب والدليل أنها غازلت «بواب تونس» بما هو أقرب لأسلوب الغانية. لكن حب نساء تونس فهو عشق إنساني لا فكاك منه. فلم يخضعن لمحبة أي عابر سبيل، فلسن لاهيات. فعشقت عزيزة يونس وسعدى عشقت مرعى ومن أجله هربت الترياق لأبى زيد.
وأخيراً ينشد أبو زيد ويونس : "تمانيه للإنسان لابد عنهم .. وكل واحد لا بد له من تمانيه.. عسر ويسر ،واجتماع  وفرقة, وفرح وحزن، ثم سقم وعافية ..ولا كل من لبس العمامة يزينها ولا كل من يقرأ الكتابة امام ... ولا كل من تهواه وتهواه نواظرك . يأتي الى عندك بغير كلام .. ولا كل من أودعته سر يصونه .."

 

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.