رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الجمعة 13 يونيو 2025 9:26 ص توقيت القاهرة

الأدب المقارن... من تأمل النص إلى تفكيك العالم

بقلم د/سماح عزازي

في عالم تتزاحم فيه الأصوات وتتداخل فيه الحكايات، 
يصبح الأدب المقارن أكثر من مجرد منهج أكاديمي، بل نافذة نطلّ منها على هشاشة الحدود بين الثقافات، ومرايا نكسر بها الصور النمطية التي تُقنعنا بأن لكل شعب سرديته المنفصلة.
هو علمُ من لا يكتفي بالنص، بل يسائل العالم من خلال النص. علمُ من يرى في كل استعارةٍ أثرَ حضارة، وفي كل صمتٍ صدىً لقوةٍ ما تُراد له أن يُمحى. هنا، لا تكون المقارنة تكرارًا، بل كشفًا. لا تكون جمعًا، بل تفكيكًا. لا تكون توافقًا، بل مساءلةً للمسلمات. وفي زمنٍ باتت فيه السلطة ناعمة، والمركزية مقنّعة، يغدو الأدب المقارن سبيلًا لفهم الذات في مواجهة الغياب، واستعادة الصوت في زحام السرديات الكبرى

المقارنة ليست فعلًا نقديًا فحسب، بل محاولة لفهم كيف 
ينظر الإنسان إلى الإنسان عبر مرايا اللغة.

في البدء، لم يكن هناك "نحن" و"هم"، بل كانت الكلمة، ثم جاءت المسافة. وهكذا وُلد الأدب المقارن، ليس بوصفه أداة للقياس، بل كصرخة أولى لذاتٍ تستشعر الغربة في النص، فتبحث عن المعنى بين الثقافات، كما يبحث التائه عن ذاته في خريطة لا أسماء فيها.
إنه سؤال وجودي لا يبحث عن إجابة واحدة، بل يفتح أبواب الاحتمال. فكل نصّ هو أثر، وكل مقارنة هي تنقيب في طبقات الزمن والسلطة والرغبة، لا بحثًا عن تطابق، بل عن توترٍ خفيّ بين ما قيل وما أُخفي.

وحين نكتب في الأدب المقارن، فإننا لا نعيد ترتيب النصوص فقط، بل نعيد ترتيب القيم، والمعايير، وسؤال الحقيقة:
من يكتب؟ ومن يُمنع من الكتابة؟ ومن يقرر ما يستحق أن يُقارن أصلًا؟

لماذا نقرأ الأدب الذي كُتب بلغة غير لغتنا؟ ولماذا نقارن بين قصيدة عربية قديمة ونص أمريكي معاصر؟
لأننا – ببساطة – لا نعيش في عزلة. نحن نعيش في عالم يتشابك فيه كل شيء: اللغة، والسياسة، والتاريخ، والخيال.
الأدب المقارن ليس ترفًا ثقافيًا ولا تخصّصًا نخبويًا، بل هو وسيلة لفهم من نكون، عبر فهم كيف يرانا الآخر، وكيف نرى أنفسنا من خلاله.
في زمن تتضخم فيه الصورة الواحدة، ويُختزل الصوت المتعدد في خطاب مهيمن، تصبح المقارنة فعلًا تحرريًا، تفكّك به سلطة الرواية الواحدة، وتمنح به الهامش حقّ الكلام.

حين نقارن بين "أدب النكبة" في فلسطين و"أدب المنفى" في أمريكا اللاتينية، فإننا نطرح أسئلة تتجاوز اللغة، لتصل إلى جوهر الإنسان: من يملك الحق في الحنين؟ من يُسمع، ومن يُنسى؟ وهكذا، يصبح الأدب المقارن مساحة للحوار بين الثقافات، وساحة للمواجهة مع كل أشكال الإقصاء

حين تصبح المقارنة فعلًا وجوديًا
في البدء، لم يكن الأدب المقارن علمًا، بل كان دهشة المثقف أمام الآخر، ميلًا فطريًا لفهم الذات في مرآة النصوص الغريبة، ورغبة في تتبع الأصداء العابرة للغات والثقافات. مع تطوّر هذه الدهشة، وُلد حقل معرفي جديد لا يسأل فقط عمّا قاله النص؟، بل لماذا قاله؟ وبأيّ سلطة؟ وفي أيّ سياق؟

الأدب المقارن ليس مجرد مقارنة بين أعمال أدبية من لغات مختلفة، بل تداخل بين أنساق حضارية وسياقات فكرية، تكشف عمق الصلات أو الصراعات بين الشعوب، وتعيد مساءلة الثوابت المعرفية التي نظنها مستقرة.

من النص إلى العالم تطور المفهوم والمنهج
نشأ الأدب المقارن في أوروبا القرن التاسع عشر بنزعة تمجيدية للأدب الفرنسي، وبدأ كمحاولة لتتبع "النفوذ" الثقافي بين الآداب القومية. لكن مع تحولات القرن العشرين، خصوصًا مع أعمال إدوارد سعيد (Edward Said)، وغياثري سبيفاك (Gayatri Spivak)، وسوزان باسنيت (Susan Bassnett)، تحول الأدب المقارن إلى مساحة نقدية لتفكيك الهيمنة المركزية الغربية، وإعادة قراءة العلاقة بين النص والسياق، بين القول والسلطة.

في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، بيّن إدوارد سعيد كيف أن الرواية الأوروبية كانت أداة إمبريالية، وكيف يمكن للمقارنة أن تفضح هذه الآليات الناعمة للسيطرة. أما سبيفاك، فقد دعت إلى "موت التخصص الجامد"، مطالبةً بـ"تأنيث" الأدب المقارن، وتحريره من المركزية الذكورية والاستعمارية.

الأدب المقارن كأداة للمقاومة الرمزية
في سياقنا العربي، لا تكون المقارنة ترفًا فكريًا، بل وسيلة لفهم الذات وتفكيك الاستلاب. حين نقارن بين الشعر الصوفي العربي (كابن الفارض وابن عربي) وأشعار التصوف المسيحي (كجون دون أو القديسة تيريزا)، لا نبحث فقط عن الصور المتشابهة، بل نسائل المفهوم الكامن خلف "الغياب"، و"الهوية"، و"الوجود".

وحين نقارن بين "أدب المحرقة" في الغرب، و"أدب النكبة" في فلسطين، فإننا لا ندرس فقط آليات تمثيل الألم، بل حقّ الشعوب في السرد والاعتراف. الأدب المقارن هنا لا يصنع مساواة شكلية بين الضحايا، بل يكشف من يملك سلطة تعريف الضحية، ومن يُمنع من امتلاكها.

المقارن: ناقد، ومفكر، ومؤرخ ظلّ
الباحث المقارن ليس فقط ناقدًا للأدب، بل هو مؤرخ ظلّ، يتنقل بين النصوص والثقافات كمن يبحث عن الجذور
 الخفيّة للتأثير، والسلطة، والمعنى. هو أشبه بـ"مُنقّب أثري" في طبقات اللغة والرمز، يعيد ترتيب العلاقات بين المركز والهامش، ويعيد الاعتبار لصوت كان يُقصى أو يُهمّش.

ولهذا، لا تُختزل المقارنة في تتبع التأثيرات الشكلية أو الموضوعات المتكررة، بل تشمل تحليل النماذج المعرفية (Epistemes)، وأنظمة التلقي، وتمثلات الآخر، وخرائط القوة والهوية.

أين نحن من الأدب المقارن؟
لا تزال دراسة الأدب المقارن في جامعاتنا العربية حبيسة الثنائية التقليدية: نص عربي × نص غربي، مع تركيز مفرط على الشكل دون الجوهر، وعلى التأثر دون مساءلة السلطة. نحتاج إلى مقارنة أفقية وعميقة: بين نصوص الجنوب العالمي، بين أدب المنفى وأدب المهاجر، بين التمثيل في السينما والمسرح، بين الأدب والدين، بين التوراة والقرآن لا من زاوية اللاهوت، بل من زاوية البنية السردية والوظيفة الرمزية.

الأدب المقارن مشروع وعي
الأدب المقارن، كما نفهمه اليوم، ليس علم مقارنة النصوص،
 بل علم مساءلة النصوص والسياقات والسلطات. إنه مشروع وعي، وأداة مقاومة رمزية ضد التبعية والانغلاق، ومرآة مزدوجة نُطل بها على ذواتنا من خلال الآخر، ونُعيد رسم العالم بما يكشفه النص لا بما يُخفيه.

نحن بحاجة إلى أدب مقارن عربيّ، لا يستعير عدسة الآخر، بل يصنع عدسته الخاصة. لا يُقلّد، بل يُسائل. لا يكتفي بتشابه الصور، بل يغوص في اختلاف الرؤى. ففي زمن تغول الإعلام، واحتكار السرد، تبقى المقارنة فعلًا تحرريًا، وسبيلًا لاستعادة الصوت، وإعادة تعريف الذاكرة.

لسنا بحاجة إلى أدب مقارن يُشبههم، بل إلى أدب مقارن يُشبهنا… يخرج من أسئلتنا لا من إجاباتهم، ويكشف هشاشة المعايير التي فرضها المركز على الأطراف، ويعيد رسم الخريطة المعرفية من الجنوب إلى الشمال، لا العكس.
إن المقارنة الحقيقية ليست بين "نصين"، بل بين "رؤيتين للعالم"، بين من يكتب كي يُسمع، ومن يُمنع من الكلام أصلًا.
وهكذا يصبح الأدب المقارن مشروعًا مستمرًا لاكتشاف الذات في مرايا الآخر، ووسيلة لمقاومة السرديات الجاهزة، وأداة لتحرير النص – وبالتالي الإنسان – من سلطات التجاهل والإقصاء والتشويه. فهل نمتلك اليوم شجاعة السؤال، لا شهوة التطابق؟ وهل نجرؤ على أن نصنع مرايانا الخاصة، ونقرأ العالم بلغتنا نحن؟

إن المقارنة، في جوهرها، ليست سوى طريقة للوجود في عالم معقّد، نعيد فيه – بكل قراءة – اختراع علاقتنا بالآخر، وبالذات، وبالزمن. فالأدب المقارن، حين يتحرر من إسار المركزيات الأكاديمية، يصبح فلسفة للمساءلة:
مساءلة للمعرفة، وللأخلاق، وللصوت، وللصورة، وللمعنى.
هل يمكننا أن نفهم "الإنسان" دون أن نفهم كيف يتجلى في لغة الآخر؟ هل المقارنة ممكنة أصلًا في عالم تتفاوت فيه السلطة على مستوى اللغة والتاريخ والتمثيل؟
وهل يمكن للمهمّش أن يقارن، أم أن فعل المقارنة نفسه مشروطٌ بالمكانة؟ في نهاية الأمر، لا يعود الأدب المقارن مسألة اختيار موضوع، بل اختيار موقف من العالم.

لسنا في حاجة إلى أدب مقارن يردد أصداء المركزية الغربية أو يُعيد إنتاج الهامشية باسم التأثر والتأثير.ما نحتاجه هو أدب مقارن ينطلق من أسئلتنا نحن من وجعنا، ومن حاجتنا
ومن همومنا وسياقاتنا الثقافية،أدبٌ يُعيد قراءة العالم بعيوننا، لا بعيون الآخرين  إلى إعادة سرد أنفسنا بأنفسنا.
الأدب المقارن العربي اليوم يجب أن يكون مساحة لإعادة تعريف المركز والهامش، لفهم الذات لا كهوية مغلقة، بل ككائن ثقافي متحوّل، يتفاعل، ويصمد، ويكتب من قلب التجربة.
في مواجهة التبسيط الإعلامي، والاستعمار اللغوي، ومحاولات طمس الذاكرة، تصبح المقارنة مقاومة.
وتبقى الكلمة – حين تُقارن بصدق – سلاحًا ناعمًا، ومرآة صادقة، وجسرًا مفتوحًا على العالم

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.