رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 19 يوليو 2025 11:26 م توقيت القاهرة

السلسلة الأدبية في حضرة الغياب... كل شيء ينكسر

المقال الثالث
ذاكرة من نور... كيف نحيا بمن رحلوا؟
بقلم د/ سماح عزازي
حين يصبح الغياب مرآة للحب
في لحظة ما، دون سابق إنذار، يصبح الغياب جزءًا منك.
تستيقظ في صباحٍ عادي، فترى أن الضوء لم يعد كما كان،
وأن رائحة القهوة لم تعد تُغريك، وأن الضحكة... أصبحت مجرّد صوتٍ خافت، يُقال كي لا تُفضَح دمعتك.
الغياب لا يُعلن حضوره… بل يُقيم بهدوء، يتسرّب من بين الكلمات،
يُربك حواسك، ويمنحك شعورًا مُبهمًا لا اسم له:
حنين؟ وجع؟ فراغ؟
أم هو ذلك المزيج المقدّس من كل ما يؤلم ولا يُقال؟
حين يغيب من نُحب، لا يُغادروننا حقًا،
بل يختبئون في عروقنا، في الذاكرة التي تُفلت الصور فجأة،
وفي القلب الذي يُربك نبضه كلما مرّ طيفهم في الهواء.
نُدرك فجأة أن الحياة لا تعود كما كانت، وأننا لا نعود كما كنّا.
نصبح أكثر صمتًا، أكثر حنانًا، أكثر هشاشة أمام اسمٍ مكتوب، أو عطرٍ في الطريق، أو مقطع أغنية يقول ما لم نَجْرُؤ على قوله يومًا.
وهنا، تبدأ حكاية الذاكرة…
ذاك الوطن الذي نحمله داخلنا حين تُطفئ الحياة مصابيحها،
فنلجأ إليه، نستعيد من رحلوا، لا لنحزن عليهم من جديد،
بل لنحيا بهم… بطريقة لا تُشبه الفقد، بل تُشبه الوفاء.
حين تُصبح الذكرى وطنًا
هناك غيابٌ لا يُعوَّض، لكنه يُعاش.
نعم، يُعاش رغم ثقله، رغم مرارته، رغم ذلك الفراغ الذي يتركه في القلب فلا يملؤه شيء…
لأن الذين نحبّهم حين يرحلون، لا يتركون خلفهم حزنًا فقط، بل يتركون ذاكرة من نور، تُضيء لنا عتمة الأيام وتُرشدنا في ليالي الوحشة.
نحن لا ننسى، نحن فقط نُعيد ترتيب الحضور في حياتنا.
نحمل من رحلوا في قلوبنا كوشمٍ أبدي، لا نراه دائمًا، لكنه يُوجعنا حين نلمسه، ويُذكّرنا دائمًا أنهم كانوا… وما زالوا… بطريقة أخرى.
في هذا المقال، لا نكتب عن الغياب، بل عن الحضور الآخر…
عن أولئك الذين اختارهم القدر أن يغيبوا، فاختارتهم قلوبنا أن يبقوا بطريقتها.
حين تُصبح التفاصيل معبرًا إلى أرواحهم
نُمسك الفنجان الذي كانوا يحبونه، فنرتجف.
نسمع جملة قالوها ذات يوم، فتُغرقنا.
نفتح كتابًا كانت لهم فيه إشارة، أو نجد قصاصة بخطّ يدهم، كأن الزمن يُربّت على كتفنا ليقول: "هم هنا… فيك، لا عليك."
الذاكرة لا تحتفظ فقط بما هو كبير، بل تحفظ أدقّ الأشياء:
ضحكتهم في لحظة فرح، عبوسهم عند الغضب، رائحة ملابسهم، الطريقة التي كانوا يفتحون بها الباب، أو حتى نغمة السعال الخفيفة حين يُصابون بالبرد.
تلك التفاصيل لا تموت.
بل تتحوّل إلى مفاتيح سرّية نُعيد بها فتح أبوابهم في داخلنا، نُصافحهم من خلالها، نُخبّئهم تحت وسائدنا، ونقول لأنفسنا في صمت:
"ما زلت هنا... حتى لو لم أعد أراك."
الحبّ الذي يبقى رغم الفقد
الفقد لا يُلغي الحب.
بل يُعلّمه كيف يُزهر من الرماد، كيف يُنبت في القلوب وحدائق من الوفاء، وكيف يتحوّل إلى صلاة خاشعة في السجود، ودمعة دافئة على أطراف الابتسامة، وهمسة في الدعاء كلما ارتجف القلب.
نُحبهم أكثر بعد الغياب، لأن الحب حين يُحرَم من صاحبه، يتحوّل إلى حضور مضاعف.
نُحبهم دون طلب، دون انتظار، دون مقابل…
نُحبهم لأنهم صاروا فينا، في صوتنا، في ملامحنا، في ردود أفعالنا…
نُحبهم لأنهم لم يغيبوا عن الذاكرة، ولم يخذلوا الذكرى.
لأن الغائبين لا يرحلون فعلاً
إنهم لا يغيبون كما نظن...
بل يختبئون في تفاصيلنا اليومية، كأنّ الحياة تحتفظ بهم سرًّا في زواياها الصغيرة.
نراهم في طريقة فتح الباب، في تقليب أوراق قديمة، في ملعقة سكر كانت تُضاف بيدهم إلى فنجان القهوة، في ذلك النصف من المقعد الذي ما زال ينتظرهم.
نُحدّثهم دون أن نُدرك، نُناديهم بين الحلم واليقظة،
نُجادلهم في صمت، ونستعيد إجاباتهم على أسئلتنا، كأن ذاكرتنا تُمارس طقسًا مقدّسًا لاستحضارهم حين لا يحتمل القلب البُعد.
هم معنا حين نرتب المنزل، حين نُطفئ النور، حين نمسك الهاتف فلا نجد اسمهم، فنغلقه وقلوبنا ترتجف.
إنهم لا يرحلون فعلاً...
بل يتحوّلون إلى لغةٍ جديدة من الحضور، لا تُقرأ بالعين، بل تُشعر بالقلب،
ولا تُنطق بالحروف، بل تُهمس بالبكاء، بالدعاء، بالشوق الذي لا يسكن.
نحن الذين بقينا نحمل الحنين كوصية
نحن الذين بقينا بعدهم، لسنا أحياء كما نظن… نحن شهود على الحكاية، نحمل أمانة الحنين، ونعبر بها كل تفاصيل الغياب.
نُمسك بالأيام كمن يُمسك الرمل بأصابعه، نحاول أن نُبقي ملامحهم حيّة، نُقاوم النسيان بكل وسيلة ممكنة، نُعيد سماع أصواتهم في التسجيلات القديمة، نقرأ كلماتهم بخطّ يدهم، ونُرَتّلها كأنها آيات.
في وحدتنا، نُحدّث صورهم، نضع لهم وردًا في الأركان،
نُشاركهم أفراحنا كما لو أنهم هناك يستمعون،
نحزن ونكتب إليهم، لا ليقرأوا، بل لأن الكتابة إليهم تُبقي القلب دافئًا.
نحن الذين بقينا… لا نعيش فقط، بل نواصل عنهم أيضًا:
نضحك حين نتذكر ضحكاتهم، نبكي حين يخذلنا الشوق، ونقف على أطراف الحياة نحمل أسماءهم في القلب، ونُحدّث الزمن بملامحهم.
هم غادروا، نعم…
لكننا نحن من لا نزال نُعيد بناءهم كل يوم من الذكرى،
ونحيا بهم كما لو أن الغياب لم يكن أبدًا أكثر من امتحان طويل للوفاء.
نُمارس الحياة بهم… لا بدونهم
نُربّي أبناءنا على حكاياتهم، نُعلّمهم كيف كانوا يُحبّون، ويضحكون، ويعطون.
نُحدّث الأصدقاء عنهم كأنهم ما زالوا في الجوار.
نُنجز المهام التي تمنّوا رؤيتنا نُحقّقها، ننجح، نُبدع، نُحسن… لا لنُرضي أنفسنا فقط، بل لنُشعرهم أن غيابهم لم يُكسرنا.
وهكذا نُمارس الحياة بهم لا بدونهم.
نمنح غيابهم معنى، ونجعل ذكراهم وقودًا للاستمرار، لا سجنًا للبكاء.
نعيش وفي قلوبنا متّسع لهم،
وفي ضمائرنا عهد ألا نُطفئ أبدًا الشمعة التي أشعلوها ذات قُرب،
ولا نترك الريح تُطفئ ضوءهم في أرواحنا.
الذاكرة وطنُ الحبّ الأخير
ربما لا نملك القدرة على إعادة من غابوا،
لكننا نملك أن نعيش كما يحبّون، أن نبتسم حين نتذكّرهم،
أن نحمل لهم الدعاء كلما خفق القلب، ونُشعل لهم شمعة على ناصية الذكرى.
الذاكرة ليست مجرد متحف، بل وطن…
وطنٌ صغير يسكنه الذين أحببناهم بصدق، الذين غادروا قبل أن نشبع من وجودهم،
لكنهم تركوا فينا أثرًا لا يُمحى،
ووصيّة غير منطوقة تقول:
"لا تنسوني... لكن لا تتوقفوا عن الحياة."
وهكذا… لا ننسى، ولا نتوقف… بل نحيا بهم، وبنورهم، وبالحبّ الذي ما زال حيًّا فينا.
لأن الذكرى تُنقذ ما تبقى فينا من نور
في آخر كل حكاية فُقدان، نصل إلى هذه الحقيقة المؤلمة:
أن الحياة تمضي، وأن الغائبين لا يعودون…
لكن الذكرى تبقى، ناعمة كنسمة، حارقة كدمعة،
قادرة على أن تُنقذك من الانطفاء، إن اخترت أن تُحبّهم بالحضور الباقي، لا بالبكاء الراحل.
الذاكرة ليست صندوقًا للألم، بل شعلة نور نُمسك بها حين تعتم الأرواح.
نُنقّب فيها عن ضحكة، عن نظرة، عن كلمة، عن عناق لم يكتمل،
ونرتّب صورهم في القلب كأننا نُزيّن محرابًا، نصلي فيه كل مساء بدعاء الحنين.
الذين رحلوا لم يأخذوا كل شيء معهم.
تركوا لنا قلوبًا نابضة، وأمانة حُب، ورسائل غير مكتوبة نقرأها كلما أوجعنا الغياب.
تركوا أثرًا لا يُمحى… وصوتًا يقول لنا في اللحظة التي نظن أننا لن نحتمل أكثر:
"أنا معك… وإن لم تَرَني."
وهكذا نحيا.
لا ننسى، ولا نتوقف، ولا ننكسر كما يبدو.
بل نستمد من وجع الغياب نورًا خافتًا، نضيء به طريقنا،
ونقول لأنفسنا كل صباح:
"لقد غابوا عن العين، نعم… لكنهم في القلب، باقون... إلى الأبد."
بقلم د/ سماح عزازي
"الذين غابوا، تركوا لنا ذاكرة من نور… لنمشي بها حين يعمّ الظلام، ونحيا بها… إلى أن نلتقي."

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
2 + 16 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.