
بقلم د/سماح عزازي
على تخوم الجيزة، حيث تلامس الرمال أنفاس التاريخ، وحيث تقف الأهرامات كحرّاس أبدٍ لا ينام، ينهض المتحف المصري الكبير من رحم الصحراء كأنّه بعثٌ جديد لحضارة لم تمت قط.
هناك، حيث يلتقي وهج الشمس بظلّ الملوك، تتناثر الحجارة كأنها نبضات قلب الفراعنة تعود للحياة. في ذلك المكان المهيب، لا تزور المتحف فحسب، بل تدخل إلى ذاكرة الكون نفسها؛ تمشي على أرضٍ حفظت أسرار الخلق، وتتنفّس هواءً مرّ عليه تحوّط الكهنة وأصوات المزامير في المعابد القديمة.
كل خطوة في ردهاته تشبه عبورًا بين زمنين: زمنٍ صنع المجد بالحجر، وزمنٍ يعيد صياغة المجد بالعلم والفكر والضوء. تقف أمام تمثال رمسيس الثاني، فترى في قسمات وجهه صلابة الأبدية وهدوء القوة، وكأنّه ما زال يطمئن إلى أن مصر بخير، وأن المجد الذي بدأ على ضفاف النيل لن يُمحى من ذاكرة العالم.
هنا لا يكون التاريخ سردًا جامدًا على جدران الزمان، بل كائن حيّ يتنفس في أروقة المتحف، يسمع همسك، ويحدّث روحك عن الإنسان حين آمن بالخلود، عن الملك حين صار رمزًا، وعن الفن حين تحوّل إلى صلاة من حجرٍ ونور.
في المتحف المصري الكبير، لا تدخل بوابة، بل تدخل زمنًا آخر، زمنًا يتّسع فيه الماضي والمستقبل في لحظة دهشة واحدة، فيتحوّل الزائر إلى شاهد على معجزة الحضارة المصرية التي لا تزال تُضيء العالم بعد آلاف السنين من الصمت
معبد الزمان وحلم الأبدية
في حضن الهضبة التي تتربّع عليها أهرامات الجيزة حيث تبدأ الحكاية ولا تنتهي، يقف المتحف المصري الكبير شامخًا كأنّه امتدادٌ للحجر الذي نُحتت منه الأهرامات، وكأنّ الزمن – بعد آلاف السنين – قد أعار مصر لحظة جديدة لتكتب بها سطرًا آخر في سجل الخلود.
ليس المتحف المصري الكبير مجرد مبنى حجري يضم تماثيل وآثارًا، بل هو رسالة من الماضي إلى المستقبل، كتبها المصري القديم بلغة النقوش والمجد، ووقّعها المصري الحديث بلغة العمارة والفكر. إنه الجسر الذي يصل بين روح طيبة وإبداع المهندس، بين الفراعنة الذين سكنوا التاريخ، والمصريين الذين صاغوا المستقبل.
معمار من ضوء وحجر
تتجلّى عبقرية التصميم في أن المتحف نفسه قطعة فنية قبل أن يكون معرضًا للفن. واجهته الزجاجية العملاقة تحتضن الأفق وتستقبل ضوء الشمس ليغمر أروقة المتحف كما كانت الشمس تغمر معابد الأقصر وطيبة. أما البهو العظيم، فيستقبل الزائر بتمثال الملك رمسيس الثاني، مهيبًا في صمته، كأنّه يرحّب بزائريه بعد رحلة طويلة عبر الزمن.
ويمتدّ المتحف على مساحة تتجاوز نصف مليون متر مربع، ليصبح من أكبر المتاحف الأثرية في العالم، يضمّ بين جنباته أكثر من مئة ألف قطعة أثرية تحكي سيرة الإنسان المصري منذ فجر التاريخ وحتى العصر اليوناني الروماني.
كنوز الفرعون الذهبي
في قلب المتحف، يقبع جناح الفرعون الذهبي توت عنخ آمون، ذلك الشاب الذي غيّر موته وجه التاريخ. تُعرض مقتنياته لأول مرة مجتمعة في مكان واحد، بعد أن ظلّت موزّعة لعقود بين المتاحف والمعارض. من عرشه الذهبي إلى قناعه الشهير، من عرباته المذهّبة إلى كنوزه الصغيرة التي تعبق بعبير الزمن، كل قطعة تروي فصلًا من رواية الخلود.
رحلة الوعي والجمال
لكن المتحف لا يقف عند حدود العرض البصري، بل يفتح أبوابه للعلم والتكنولوجيا والفكر. قاعات تفاعلية، ومراكز بحثية، ومختبرات ترميم تُعدّ من الأحدث عالميًا، تجعل الزائر لا يكتفي بالمشاهدة بل يشارك في اكتشاف التاريخ.
إنها تجربة تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والماضي؛ فالتاريخ هنا ليس ماضيًا يُروى، بل حياة تُعاش.
مصر... التي لا تشيخ
المتحف المصري الكبير ليس مشروعًا هندسيًا فحسب، بل بيان وطني عن روح مصر. روح لا تشيخ، ولا تنحني، ولا تعرف الفناء. هو مرآة لحضارةٍ علمت العالم معنى الجمال والنظام والإيمان بالخلود.
كل حجر فيه يروي أن مصر كانت — وستظل — قلب التاريخ النابض، وأن الحضارة ليست ما نُخلّفه وراءنا، بل ما نحمله في داخلنا من وعيٍ بالجمال والإنسان.
حين يزورك المتحف المصري الكبير، لن تغادره كما جئت. ستخرج منه وأنت تحمل في عينيك شيئًا من ضوء الأهرامات، وفي قلبك يقينًا بأن مصر لم تكن يومًا دولة عادية، بل فكرة خالدة كُتبت على وجه الزمن بالحجر والنور.
عناق بين الحلم والخلود
وعندما تغادر المتحف، تشعر أنّك لا تخرج من مكان، بل تخرج من أسطورةٍ حيّة. تلتفت إلى الخلف، فإذا بالبهو العظيم يودّعك كأنّه يعرفك منذ آلاف السنين، وكأنّ رمسيس في صمته المهيب يراك أحد أبنائه الذين واصلوا الحلم.
يمتدّ بصرك إلى الواجهة الزجاجية الشفافة، فتراها كمرآةٍ تعكس وجه مصر الحقيقي: بلدٌ لا يشيخ، لا يموت، لا ينسى نفسه مهما تبدّلت الأزمنة.
هناك، بين الأهرامات والسماء، تدرك أن المتحف المصري الكبير ليس صرحًا من حجر، بل نبض وطنٍ يؤمن أن الخلود ممكن، وأن الزمن مهما طال لن يغيّر من ملامح العظمة شيئًا.
فإذا أغلقت عينيك بعد الزيارة، ستظل ترى أمامك وهج الذهب في قناع توت عنخ آمون، وستسمع في داخلك ترتيل الأبدية الذي سكن المعابد القديمة، وستفهم لماذا كانت مصر — وستظل — أمّ الحضارة، ومعلمة الإنسان، وسيدة الزمان.
المتحف المصري الكبير ليس نهاية رحلة الآثار، بل بداية وعي جديد بمعنى الوجود؛ إنه رسالة مصر إلى العالم: أن الجمال لا يفنى، وأن الحضارة ليست ماضيًا يُروى، بل حاضرًا يُبنى كل يوم، على ضوء الشمس نفسها التي عبدها أجدادنا، تحت السماء نفسها التي شهدت أول حلمٍ بالخلود.
إضافة تعليق جديد