رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الجمعة 4 يوليو 2025 2:24 ص توقيت القاهرة

تأثير القرآن الكريم على الشعر الصوفي الفارسي "دراسة في الادب المقارن"

بقلم د/سماح عزازي

ما من كتاب أنزل على البشرية فأشعل في قلوب العارفين نار الشوق، وأضاء لأرواحهم طريق الوجد، ككتاب الله الكريم… وما من شعر نبت على ضفاف هذا النور كما نبت الشعر الصوفي الفارسي، حافيًا على طريق الحب الإلهي، عاريًا من كل زخرف، إلا من أنفاس الآيات.

في أزمنة الروح، حين كان الكلام يسيل من القلب قبل القلم، لم يكن الشعر فعلَ زينةٍ ولا لهوًا لغويًا، بل كان وحيًا داخليًا ينزف من صدور المشتاقين، الباحثين عن سرّ الوجود.
وحين دخل نور القرآن إلى أرض فارس، لم يُترجم فقط بالحروف، بل تغلغل في الوجدان، وتحوّل إلى شطآن صوفية من المعاني، والرموز، والصور التي لا تُروى بل تُذوق.

إن الشعر الصوفي الفارسي لم يأتِ من فراغ، ولم ينبت في تربة علم الكلام وحده، بل تغذّى على ندى القرآن، وتكوّن في رَحِم التأمل في آياته.
آياتٌ رأى فيها العارفون إشارات لا تقف عند ظاهر المعنى، بل تفيض بأنوار من خلف الحجاب، فكان الشعر بالنسبة لهم لغة القلب الموازية للذكر، ومرآة لرحلة الفناء والبقاء.

في هذا المقال، لا نسعى إلى حصر التأثير، بل إلى تتبع أثر الحضور القرآني في بنية الشعر الصوفي الفارسي، كيف شكّل لغته، وكيف أضاء رموزه، وكيف تحوّل من مصدر معرفي إلى جوهرٍ عرفاني، يشتبك مع الذات والعالم في آنٍ معًا.
فمن خلال رمزية يوسف، ونور الآية، وحرائق الشوق، وصمت التجلّي، نقرأ كيف صار القرآن نبضًا داخل النص الصوفي، ومفاتيح لفهم أسرار الشعراء الذين كانوا يكتبون وعيًا لا أبياتًا.

 "القرآن ليس كتاب دين فحسب، بل نهرٌ من المعاني، كل من اقترب منه شرب بحسب عطشه… والشعراء الصوفيون كانوا أكثرهم ظمأً."

في رحاب الشرق، حيث تمازجت الحكمة الفارسية بروحانية الإسلام، وُلد الشعر الصوفي الفارسي، لا بوصفه مجرد فن أدبي، بل كحالة عرفانية تستبطن القرآن وتعيد تأويله بلغة القلب والوجد والرمز.

لقد كان القرآن الكريم المصدر الأول والأعمق للشعر الصوفي الفارسي؛ لا باعتباره نصًا يُقتبس، بل باعتباره عالمًا يُغمر فيه الشاعر، ويتنفس من مجازه، ويتطهّر بجلاله.
وما من شاعر صوفي فارسي كبير – من جلال الدين الرومي إلى حافظ الشيرازي، ومن فريد الدين العطار إلى السهروردي – إلا وكان القرآن شعلة هدايته، ومصدر إلهامه، ومسرح رموزه.

 القرآن في قلب التجربة الصوفية
يرى المتصوفة أن القرآن كتاب الأسرار قبل أن يكون كتاب الأحكام، وأن آياته مفتوحة على التأويل الوجداني والعرفاني.
ففي القرآن وجدوا نداء الحب الإلهي، ونشيد الشوق، ومرايا الفناء والبقاء.
وهو ما جعل الشاعر الصوفي الفارسي لا يقرأ القرآن قراءة فقهية، بل يتفاعل معه بصفاء الذوق وصدق التجربة.

كتب الرومي في مثنوياته:

 "القرآن بحرٌ لا ساحل له… يقرأه العارف فيغرق في نوره، ويقرأه العابد فيُذهل عن الدنيا."

ويقول حافظ:
 "كلام الحق لا يُتلى باللسان فحسب، بل يتجلّى في القلب لمن أخلص له العشق."

 التناص القرآني في الشعر الفارسي الصوفي
التأثير القرآني في الشعر الصوفي الفارسي لم يكن مجرد استشهاد لفظي، بل كان بنية داخلية تؤسس للصور الشعرية، وتمنح الرموز الصوفية عمقها الميتافيزيقي.
نجد مثلاً في تجربة فريد الدين العطار، رمزية النبي موسى تتكرّر بوصفه رمزًا للباحث عن النور، ونموذجًا للسالك الذي لا يخشى لهيب الحقيقة.

كما استلهموا قصة يوسف عليه السلام بوصفها مجازًا عن جمال الحق الذي تسكر الروح عند رؤياه. يقول حافظ:

 "جمال يوسف لا يُشترى بالذهب، بل تُدفع فيه الأرواح… 
فهل يراكِ العاشق إلا من وراء قميصه الممزق؟"

وفي تكرار رمزية "الكوثر"، و"الميزان"، و"النور"، يظهر التماهي بين المجاز القرآني والمعجم الصوفي الفارسي، مما أنتج تجربة شعرية تمتح من الكتاب الكريم كما يمتح القلب من نبضه.

 مفاهيم قرآنية في بنية الشعر الصوفي
1. الحب الإلهي:
أصل الفكرة الصوفية في الحب كما ظهرت في شعر الرومي والعطار، مستمدة من إشارات قرآنية مثل:

 {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]
إذ يتجلى الحب بوصفه رابطة نورانية بين الله وعباده، لا تخضع لعقل، بل لوجد.

2. الفناء والبقاء:
مستلهم من قوله تعالى:

 {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ • وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27]
وهي الركيزة الكبرى في التجربة العرفانية، حيث يسعى العارف إلى فناء الأنا في وجه المحبوب الأزلي.

3. الأنوار والظلمات:
تتكرر في قصائدهم استعارات النور، كما في قوله تعالى:

 {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]
ليصبح النور عندهم رمزًا للمعرفة، للحقيقة، وللكشف الصوفي.

الحلاج… روح عربية تهمس في وجدان الشعر الفارسي
رغم أن الحسين بن منصور الحلاج لم يكن فارسيًا، بل شاعرًا صوفيًا عربيًا كتب بالعربية، فإن أثره في الوجدان الصوفي الفارسي لا يُمكن إنكاره.
فقد كانت تجربته الصوفية العميقة، التي بلغت ذروتها في فكرة الحلول والفناء في الذات الإلهية، منبع إلهام للشعراء الفرس، وخصوصًا في ما يتعلّق بتمجيد العشق الإلهي، وتجاوز ظاهر الشريعة نحو جوهر الحقيقة.

لقد رأى فيه الرومي والعطار شهيد العشق، ومرآة للصدق الذي لا يحتمل التزييف، فاستحضروا سيرته لا كمأساة، بل كمقام روحاني رفيع.
يكتب العطار عن الحلاج قائلاً:

 "هو من شرب الكأس حتى الثمالة…
 فحُجب عن الناس، لا عن الله."

وفي إشارات الشعر الفارسي، كثيرًا ما يُذكر الحلاج ضمن رموز العشق الإلهي الذين اختاروا طريق الذوبان في المعشوق الأعلى مهما كان الثمن، حتى وإن كان الثمن هو الدم.

وهكذا، لم يكن الحلاج فارسياً، لكن روحه العاشقة للحق ظلت تهمس في قوافي الشعر الصوفي الفارسي، تذكّرهم أن العارف لا يُقاس بجنسه أو لغته، بل بمدى احتراقه في محبة الحق.

 الشعراء الكبار والقرآن: نماذج حيّة
- جلال الدين الرومي:
كان يرى في القرآن روحًا تسكن كل بيت من المثنوي. استخدم الرموز القرآنية كجسر بين الشريعة والحقيقة.

- حافظ الشيرازي:
عُرف بديوان زاخر بالإشارات القرآنية، ولكن بلغة الغزل والعشق، فجعله القرآن معشوقًا صامتًا يهمس للقلوب.

- فريد الدين العطار:
صاحب "منطق الطير"، جعل من قصص الأنبياء القرآنيين أدوات روحية، تهدي الطيور إلى "سيمُرغ" – رمز الذات الإلهية العليا.

السهروردي... أنوار القرآن في فلسفة الإشراق
في مملكة الضوء، حيث تتلاقى الحكمة الفارسية القديمة 
مع المعارف القرآنية، وقف شهاب الدين السهروردي (1154–1191م) كأحد ألمع فلاسفة التصوف الفارسي، وصاحب فلسفة الإشراق، التي أسست لمدرسة عرفانية خاصة تمتح من القرآن نورها، ومن الذوق الصوفي جوهرها.

السهروردي، رغم لغته الفلسفية المعقدة، لم يكن بعيدًا عن النص المقدس، بل استقى من الآيات الكريمة رموز النور والظلمة، والمقامات الروحية، ومفهوم المعرفة الحسية والبصيرة.
فآية النور:

 {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]
ليست عنده فقط وصفًا لذات إلهية، بل مبدأ وجودي 
تتسلسل منه كل الكائنات، وتعود إليه كل الأرواح.

وفي نصوصه، تحضر القصص القرآنية بوصفها شفرات رمزية لعالم الغيب: فموسى هو سالك النور، وإبراهيم هو كاشف الحجب، ويوسف هو جمال الحقيقة في مرآة التجلي.

وإذا كان الشعراء الصوفيون قد غنّوا بالعشق، فإن السهروردي كتب بنور العشق، وصاغ فلسفة روحية تتجاوز المنطق نحو المكاشفة، فكان القرآن عنده ليس مرجعًا معرفيًا فقط، بل الشرارة الأولى لفهم الوجود كنور يتخلل العتمة.

وهكذا، يُعد السهروردي حلقة وصل بديعة بين القرآن ككتاب هدى، والتصوف كرحلة إشراق، حيث تتفتح الحروف لتصبح أبوابًا، وتغدو الآيات مصابيح تسلك بها الأرواح طريق الأبد.

 لا يمكننا أن نفصل بين الشعر الصوفي الفارسي والقرآن،
 تمامًا كما لا يمكن فصل الضوء عن المصدر.
القرآن، بالنسبة لهؤلاء الشعراء، لم يكن مرجعًا لغويًا أو دينيًا فحسب، بل كان حقلًا لا نهائيًا من الرمز والكشف والتجلي.

لقد فتح لهم أبواب السماء، فكتبوا بمداد الروح، وسافروا 
عبر الحرف ليصلوا إلى المعنى،
وفي كل بيت من قصائدهم... هناك ومضة من نور الآية، ونبض من نداء الغيب.

"ليس كل ما يُقرأ يُفهم، وليس كل ما يُفهم يُعاش… لكن الشعراء الصوفيين الفُرس، عاشوا القرآن قبل أن يكتبوه، وأذابوا أرواحهم في نوره قبل أن يصوغوه قافيةً."

لقد كان القرآن الكريم بالنسبة للشعر الصوفي الفارسي، ليس مرجعًا بل منهج حياة، ليس استعارة بل مقامًا من مقامات السير والسلوك.
لم يُعامل الشعراءُ الصوفيون الكتاب العزيز كأداة للوعظ، بل كمرآة للذات حين تتجرد، وكصوتٍ داخليّ يُشعل القلب، ويهديه نحو منازل المحبة والفناء.
وهكذا، لم يكن الشعر الصوفي تكرارًا للآيات، بل إعادة اكتشاف لها على لسان عاشق، يرى في "النور" معنىً للحقيقة، وفي "الكأس" صورةً للتجلّي، وفي "الأنبياء" رموزًا للطريق.

وفي عالمنا اليوم، حيث ضاع الذوق الروحي تحت ضجيج العقل والتحليل، ربما نحتاج أن نعود إلى هؤلاء العشّاق، نقرأهم لا بعيون النقد، بل بقلوب العطش.
نقرأهم لا لنفهم فقط، بل لنستعيد تجربة التوحيد الجمالية، التي ترى في القرآن شجرة تنبت شعرًا، وفي الشعر صلاةً على هيئة قصيدة.

فهل نملك نحن اليوم، كما ملكوا هم، ذلك الصفاء الذي يجعل من الكلمة نَفَسًا، ومن الآية وطنًا، ومن البيت الشعري مِحرابًا؟
وهل بقي فينا ما يكفي من السُكْر الروحي، لنرى في القرآن ما رآه الرومي والعطار وحافظ؟
إنه سؤال للروح… لا تُجيب عليه العقول، بل التجربة.

 المصادر والمراجع المعتمدة
القرآن الكريم – النص الأساسي لكل الاقتباسات.

المثنوي المعنوي، جلال الدين الرومي.

ديوان حافظ الشيرازي، ترجمة عبد الغفار مكاوي.

منطق الطير، فريد الدين العطار.

Mystical Dimensions of Islam – Annemarie Schimmel

The Triumphal Sun: A Study of the Works of Jalal al-Din Rumi – William Chittick

Islamic Mystical Poetry – Mahmood Jamal

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.