رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأربعاء 3 سبتمبر 2025 5:06 م توقيت القاهرة

تدمير المكتبات في فلسطين: حرب تطهير تستهدف محو الذاكرة والهوية الوطنية والإلغاء الكامل لفكرة الوطن الفلسطيني

كتب: الدكتور راشد الراشد

يشكل تدمير المكتبات في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة، جزءًا من سياسة ممنهجة لاستهداف الذاكرة الثقافية الفلسطينية ومحاولة محو الهوية الوطنية. خلال الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، تم تدمير نحو 90% من المكتبات العامة في غزة، بما في ذلك مكتبات الجامعات مثل الأزهر والجامعة الإسلامية وجامعة الأقصى، إضافة إلى مكتبات البلديات والمؤسسات الثقافية.

ويشمل هذا الدمار حرق آلاف الكتب النادرة والمخطوطات اليدوية، التي لا يمكن تعويضها، ما يمثل خسارة فادحة للتراث الحضاري الفلسطيني، ويؤثر بشكل مباشر على الهوية والعملية الثقافية والتعليمية، حيث كانت هذه المكتبات منارات للعلم والمعرفة في غزة، التي تُعتبر مهدًا للعلوم ومركزًا حضاريًا عريقًا.

إن استهداف المكتبات الفلسطينية ليس مجرد أضرارًا جانبية، بل هو جزء من سياسة متعمدة لإبادة الذاكرة الثقافية الفلسطينية ومحو الهوية الوطنية، وهو ما يعكس استمرارًا لمحاولات الاحتلال لطمس الوجود الفلسطيني بكل أبعاده.

والحقيقة إن استهداف المكتبات والمؤسسات الثقافية والتراثية يُعد جزءًا من استراتيجية شاملة تهدف إلى طمس الهوية الفلسطينية، وتدمير الإرث الحضاري، وإلغاء فكرة الوطن الفلسطيني، وهو ما يعكس عقلية احتلالية تسعى إلى كي وعي الفلسطينيين وإلغاء وجودهم التاريخي على أرضهم.

فقد تجاوزت جريمة التدمير حدود الهدم لتشمل حرق آلاف الكتب والمخطوطات النادرة، بعضها مخطوطات أثرية مكتوبة بخط اليد، إلى جانب آلاف النقوش الحجرية والوثائق التاريخية التي لا يمكن تعويضها، مما يشكل خسارة ثقافية وحضارية جسيمة تعادل ما حدث في العصور الوسطى على يد التتار والمغول.

وهنا فإنّ تدمير شيء إسمه فلسطين الهوية والوطن هو الهدف، إذ لا يقتصر تدمير المكتبات في فلسطين على خسائر مادية فحسب، بل هو جزء من حرب استئصالية ممنهجة تهدف إلى محو الذاكرة والهوية الفلسطينية التي تشكلت عبر قرون من التاريخ والحضارة، ومحاولة إلغاء وطن اسمه فلسطين من الذاكرة الوطنية لشعبنا. ومحاولة نسفها من تاريخنا الإنساني، وهي جريمة متوحشة بكل المقاييس. 

لا يخفى أن الهوية الوطنية لأي شعب تركتز بشكل كبير على تراثه الثقافي وتاريخه المكتوب والموثق في الكتب والمخطوطات. وفي فلسطين، تحمل المكتبات والمخطوطات تاريخًا غنيًا يشمل الحضارات المختلفة التي تعاقبت على الأرض الفلسطينية، بالإضافة إلى الأدب والعلوم والفنون والذاكرة الشعبية التي توثق نضال الفلسطينيين عبر الأجيال وتطلعاتهم. إن تدمير هذه المكتبات يهدف إلى طمس هذا التاريخ وإلغاء الرواية الفلسطينية للوقائع والأحداث، مما يسهل فرض روايات بديلة تخدم مصالح الاحتلال.

الكثير من الكتب والمخطوطات التي دُمرت كانت نادرة وفريدة من نوعها، يعود بعضها إلى قرون مضت، وتحمل بين صفحاتها معلومات تاريخية وأدبية ودينية لا يمكن تعويضها أو استبدالها. إنّ فقدان هذه الكنوز الثقافية يعني فقدان جزء من الذاكرة الجماعية التي تربط الأجيال ببعضها، وتُغذي الوعي الوطني. هذه الخسارة تؤثر ليس فقط على الفلسطينيين الحاليين، بل تمتد لتطال الأجيال القادمة التي ستجد صعوبة في الوصول إلى الحقائق عبر جذورها الثقافية وأصولها التاريخية.

إنّ المكتبات ليست مجرد أماكن لتخزين الكتب، بل هي مراكز للمعرفة، وحفظ التراث، ونقل الثقافة، ومصادر أساسية لمعرفة حقائق التاريخ وجذور الهوية وكذلك للتعليم والبحث العلمي. عندما تُدمر هذه المؤسسات، فإنّ المجتمع الفلسطيني يُحرم من أدواته الأساسية للحفاظ على هويته الثقافية والتاريخية. وتتجاوز آثار تدمير المكتبات ما يمكن تصوره من حدود تتصل بالمعرفة والفكر والثقافة الإنسانية، لتطال بشكل مباشر قدرة المؤسسات التعليمية والثقافية الوطنية في أداء دورها في حفظ الهوية وتنمية المجتمع، مما يؤدي إلى تراجع مستوى الثقافة العامة والوعي الوطني بالهوية والوطن. وهكذا تضيع الأوطان في ظل مثل هذا التدمير الممنهج.

لذلك فإنّ هذا التدمير الحاصل للمكتبات والكتب الفلسطينية مؤخراً لا يحدث من فراغ، بل هو جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى إضعاف المجتمع الفلسطيني نفسيًا وقهره، بل واستلابه اجتماعيًا، عبر ضرب رموز هويته الثقافية وإقتلاع جذوره وأصوله التاريخية من بطون مصادر المعرفة. ويساهم تدمير الهوية بخلق حالة من اليأس والإحباط بين الفلسطينيين، إذ يصعب عليهم الحفاظ على ترابطهم المجتمعي والثقافي في ظل محاولات مستمرة لطمس هويتهم وإلغاء وجودهم التاريخي والمادي الحاضر.

وهكذا، فإنّ تدمير المكتبات في فلسطين هو هجوم مباشر على الذاكرة الوطنية والهوية الثقافية، ويشكل خسارة فادحة لا يمكن تعويضها للموروث الثقافي والتاريخي الفلسطيني. هذه الخسائر تؤثر بعمق على الهوية والوعي الوطني، وتُعد جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى محو الوجود الفلسطيني على المستوى الثقافي والحضاري، واستئصاله من أرضه وتراثه.

ونظرًا لحجم جريمة الاستهداف التي تهدف إلى استئصال الهوية ومحو الوطن، ليس فقط من الذاكرة الوطنية، بل من ذاكرة التاريخ والجغرافيا، فإن هذا الاستهداف لا يقتصر على التدمير الفيزيائي فحسب، بل يشمل أيضًا نهب الكتب والمخطوطات واعتقال أصحاب المكتبات. فقد حدث ذلك في القدس مع المكتبة العلمية ومكتبة القدس، حيث صادر الاحتلال كتبًا تحمل ترامث ضخماً لعدد من رموز الفكر والثقافة الفلسطينية وتماشياً مع استراتيجية التنكيل والتدمير قام الإحتلال بعد المصادرة باعتقال أصحابها.

يمكن وصف الاعتداءات على الكتب والمخطوطات والمكتبات في فلسطين بأنها جرائم إبادة وتطهير مدنية وحضارية ممنهجة تستهدف محو الذاكرة الوطنية الفلسطينية. إذ لا تقتصر هذه الاعتداءات على التدمير المادي فحسب، بل تشمل النهب والسرقة والتشويه المتعمد لتراث فلسطيني عريق يمتد لقرون، مما يعادل خسارة لا تُعوَّض للهوية الوطنية والثقافية والتاريخية، ليس للفلسطينيين فحسب، بل لحضارتنا الإسلامية والإنسانية على حد سواء، نظرًا لما تمثله أرض فلسطين من معنى وقيمة في واقع المدنية الإسلامية وحضارتنا الإنسانية.

يُنظر إلى هذه الأفعال على أنها "قصف للعقول" و"تدمير للذاكرة"، حيث تم تدمير نحو 90% من المكتبات العامة في غزة، وحُرقت آلاف الكتب النادرة والمخطوطات التي توثق التاريخ الفلسطيني، وهو ما يشبه ما حدث في العصور الوسطى من حرق للكتب على يد المغول والتتار.

إنّ هذه الاعتداءات لا تمثل مجرد حرب على الثقافة والمعرفة، وإنماً هي حرب إستئصال وتطهير عرفي وعنصرى سافر، إذ تستهدف الاعتداءات الممنهجة الأرشيفات والوثائق والمخطوطات التي تحمل تاريخًا يمتد لأكثر من مئات السنين، بما في ذلك مخطوطات أثرية ومراسلات تاريخية مهمة باسم فلسطين.

بالإضافة إلى التدمير، هناك سياسة سرقة منظمة ونهب للمكتبات الخاصة والعامة، حيث استولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على آلاف الكتب والمخطوطات الفلسطينية، ورفضت إعادتها إلى أصحابها أو ورثتهم، مما يعكس إرادة طمس الثقافة الفلسطينية وإعادة صياغة التاريخ وفق رؤية الاحتلال.

إنّ هذه الاعتداءات تُعد انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية التي تحمي التراث الإنساني وهوية المجتمعات والممتلكات الثقافية، وقد تم تجاهل مناشدات منظمة اليونسكو بعدم استهداف المواقع التراثية والعلمية والثقافية، والتي يمكن وصفها بأنها جريمة حضارية متكاملة الأركان، تهدف إلى محو الذاكرة الفلسطينية، وتدمير الإرث الحضاري، وتغييب الهوية الوطنية، لما تتركه من آثار عميقة على جميع أوجه الحياة في المجتمع الفلسطيني بأكمله.

من الواضح بأنّ إعتداءات قوات الاحتلال ضد المؤسسات الثقافية والتراثية الفلسطينية تهدف ليس إلى مجرد محو الذاكرة الوطنية وتشويه الرواية الفلسطينية، بل تسعى إلى فرض سيطرة سياسية وثقافية على الأرض. وفق تقارير وزارة الثقافة الفلسطينية، يشن الاحتلال حملة إبادة ممنهجة على قطاع الثقافة والتراث الفلسطيني بمكوناته المادية وغير المادية، في محاولة لتدمير الهوية الوطنية الفلسطينية وتعزيز رواية الاحتلال المزيفة.

وهنا نستعرض بإيجاز الأهداف الأساسية لهذه الاستهدافات والتي في نظرنا تشمل:

أولاً: محو الذاكرة الوطنية: من خلال تدمير المكتبات، المتاحف، المواقع الأثرية، والمباني التاريخية التي تمثل تراث الفلسطينيين وهويتهم الجماعية.

ثانياً: تشويه الحقائق ومحاربة الرواية الفلسطينية: عبر تدمير المؤسسات الثقافية والفنية واعتقال أو اغتيال الفنانين والكتاب والأكاديميين، مما يعيق نقل الثقافة والوعي الوطني للأجيال القادمة.

ثالثاً: فرض سياسة التهويد والأسرلة: خاصة في المناطق الأثرية والبلدات القديمة في القدس ونابلس والخليل، بهدف تغيير الطابع الثقافي والتاريخي لهذه المناطق.

رابعاً: خلق حالة من الفوضى والدمار الشامل: بجعل الحياة في هذه المناطق غير قابلة للاستمرار، ما يؤدي إلى تهجير السكان وتفكيك النسيج الاجتماعي والثقافي.

خامساً: الاستيلاء على المواقع الثقافية واستخدامها لأغراض الاحتلال، مع منع الفلسطينيين من الوصول إليها أو المشاركة في فعاليات ثقافية، مما يعمق الإحساس بالاغتراب والحرمان الثقافي.

إن استهداف المؤسسات الثقافية والتراثية هو جزء من استراتيجية شاملة تهدف إلى طمس الهوية الفلسطينية، وتدمير الإرث الحضاري، وإلغاء فكرة الوطن الفلسطيني، وهو ما يعكس عقلية احتلالية تسعى إلى كي وعي الفلسطينيين أولاً وإلغاء وجودهم التاريخي على أرضهم، ووعي الأمة الإسلامية بصدمة الإعتراف بأمر الواقع الجديد المفروض بمنطق القوة والغلبة، وكي وعي العالم بفرض هذا الإنقلاب المرّ على الحقيقة.

رغم التحديات الكبيرة التي فرضها الاحتلال وجرائم التدمير المتكرر للمكتبات والمواقع التاريخية. وهكذا، يواجه الفلسطينيون خسارة تراثهم الثقافي النادر عبر جهود إنقاذ، توثيق، ترميم، وحماية مستمرة.

تُعد الثقافة والتراث الفلسطينيان حجر الأساس في صيانة الهوية الوطنية والحفاظ على الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني وأرضه. ورغم محاولات الاحتلال المتكررة لاقتلاع هذه الجذور وطمس معالمها، تبقى الإرادة الفلسطينية نابضة بالحياة، تواجه التحديات عبر التوثيق، والحفظ، والمقاومة الثقافية، لتؤكد أن التاريخ والهوية لا يمكن محوهما أو طمسهما مهما بلغت جرائم تدمير التراث وحرق المكتبات والمخطوطات الأثرية. إن حماية التراث الفلسطيني مسؤولية جماعية تتطلب تضامنًا دوليًا ودعمًا متواصلاً لضمان استمرار حضور الهوية الوطنية الفلسطينية وتجدد هذه الحضارة عبر الأجيال. وإن الشرفاء في العالم كافة مدعوون إلى وقفة أخلاقية صادقة وجادة لإنقاذ فلسطين وصون إرثها الحضاري والإنساني وصد كل محاولات التهديد لهذا الوجود.

د. راشد الراشد
*باحث من البحرين.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
7 + 7 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.