بقلم /سماح عزازي
في أروقة الحياة، حيث تختلط الوجوه بالحكايات وتتشابك الأقدار كخيوط معقدة في نسيج الزمن، نجد أنفسنا كثيرًا أسرى أحكامٍ سريعة، نحاكم الناس بلسان العُرف لا بميزان الحق، نرسم صورًا في أذهاننا ونُصدقها قبل أن نمدّ أيدينا لنمسح الغبار ونرى الحقيقة. هناك، في زوايا المجتمع الضيقة، تُلقى تهمٌ بلا دليل، وتُشنق الأرواح على أعمدة الظنون، فيموت بعضهم حيًّا، لأنهم لم يُمنحوا فرصة واحدة ليثبتوا أنهم يستحقون الحياة.
لكن الحياة، رغم قسوتها، تخبئ دائمًا مساحات صغيرة من النور. لحظات تخرج فيها إنسانية أحدهم لتصبح الجسر الذي يعبر عليه آخر نحو الخلاص. وهكذا تبدأ القصة… ليست حكاية جارة عابرة ولا زواجًا حدث صدفة، بل حكاية فرصة واحدة غيرت مصيرًا، وقلبت نظرات مجتمع كامل رأسًا على عقب.
في أحيان كثيرة، تتحول الأحكام إلى مقصلة، وتصبح الهمسات سكاكين تقطع أرواحًا قبل أن تُمنح حق الدفاع عن نفسها. هناك أشخاص يُحاكمون لمجرد أنهم عاشوا بطريقة لم ترضِ الآخرين، أو ساروا في طريق لم يسلكه من حولهم. لكن بين كل هذا الصخب، يولد أحيانًا شخص مختلف، لا يوزع الأحكام كالنيران، بل يمد يده ليُقدم شيئًا أندر من المال وأغلى من الكلمات: الفرصة.
كانت هناك شابة في عمارة قديمة، جارة عرفها الجميع بالاسم، لكن اختلفوا حول سيرتها. فالبعض – بعين المجتمع القاسية – ألصق بها كل الصفات الثقيلة: “سيئة السمعة”، “متحررة أكثر مما ينبغي”، “فتاة الليل”. لكن الحقيقة أنها كانت مجرد إنسانة وحيدة، يتيمة فقدت أباها في الرابعة والعشرين من عمرها، ثم لحقت به أمها بعد عامين، فتركتها الحياة في مواجهة الفراغ.
لم تترك بيت العائلة، لم تنتقل إلى أقاربها، بل قررت أن تقف وحدها، موظفة في شركة عادية، تحاول أن تمضي حياتها كما تستطيع. ملابسها الأنيقة كانت “شيك” في عين بعضهم، و”صاخبة” في عين آخرين. سهرتها خارج البيت حتى منتصف الليل كانت عندها متنفسًا، لكنها عند “طنط العمارة” دليل “سوء سمعة”. وسفرها مع أصدقائها ليوم أو يومين كان عندها مغامرة، لكنه عند الآخرين “انحراف”.
ثم جاء اليوم الذي طرق فيه الحب باب حياتها.
رجل في الأربعين من عمره، زبون في الشركة التي تعمل بها، أعجب بها وأراد أن يتزوجها. لكن الرجل – كما يفعل الكثيرون – لم يكتفِ بالحديث معها، بل ذهب ليطرق أبواب الجيران بحثًا عن “السيرة”، عن “السمعة”.
قادته خطاه إلى “القبطان”، أقدم ساكن في العمارة. رجل يعرف تفاصيل كل العائلات، وحكايات كل الأبواب المغلقة. جلس الرجل أمامه وسأله عن الفتاة.
بمنتهى الهدوء، لم يطلق “القبطان” الأحكام، بل بدأ يسرد الحقيقة كما يعرفها:
– “أمها كانت أطيب سيدة، تصنع قرع العسل بالبشاميل وتوزعه على الجيران بابتسامة. أبوها، رغم حدّة لسانه، لم يؤذِ أحدًا يومًا، ولم يسيء إلينا أو لجيراننا. أما هي… فضحوكة أكثر مما ينبغي، جريئة، تحمل الدنيا بصدرها الواسع. وحيدة بلا ظهر ولا سند. حين تأتي المناسبات تختفي لأنها لا تريد أن تواجه وحدتها.”
كان الرجل يستمع بانتباه، لكن “القبطان” لم يكتفِ بالمعلومات، بل مدّ للخاطب حبل الأمل:
– “تحفظي الوحيد عليها أنها تعطي ابنتي شرائط مايكل جاكسون وجورج مايكل… وأنا لا أريدها أن تسمعهم! أما ملابسها… فلتغيّرها أنت. وأما الحجاب… فالله يهدي من يشاء في الوقت الذي يشاء.”
شيئًا فشيئًا، انفرجت ملامح الرجل. وجد أمامه من لا يزيد النار حطبًا، بل من يُطفئها. وجد من لا يُطلق شائعات، بل يُعيد للفتاة إنسانيتها.
وعاد الخاطب بعد يومين ليقول:
– “قررت أن أتزوجها… لكني ما زلت خائفًا مما سمعت.”
نظر إليه القبطان بثبات وقال جملة ستظل محفورة:
– “أنت طلقت زوجتك الأولى لأن الظروف كانت أقسى منك. أليس كذلك؟”
– “نعم.”
– “إذن… كلنا ضحايا ظروف. والظروف حين تتغير، يتغير الناس. هي تحتاج فرصة واحدة… وأنت هذه الفرصة.”
تم الزواج.
لم يكن زواجًا عابرًا أو كارثة كما تخيّل “الطنط” الذين جلسوا في الشرفات يتهامسون. بل كان بداية حياة جديدة. تحولت “الفتاة السيئة السمعة” في عيونهم إلى زوجة محترمة وأم رائعة. وحين مات القبطان بعد سنوات، جاءت من الكويت – حيث انتقلت مع زوجها – وذهبت إلى المقابر وحدها، وقفت أمام قبره وبكت وقالت:
– “لولاه… كنت الآن في الجحيم.”
ولأن كلمة الحق لا تُنسى، عاشت كلماته أبعد من حياته.
لقد أثبت أن كلمة واحدة قادرة أن تهدم عمرًا… وكلمة واحدة قادرة أن تبني حياة. وأن شخصًا واحدًا، قرر أن يرى ما وراء السلوكيات، يمكن أن يُنقذ إنسانًا كاملًا فقط لأنه آمن بشيء واحد: كل إنسان يستحق فرصة.
إنها ليست مجرد حكاية جارة تغيّرت حياتها بزواج، إنها مرآة لنا جميعًا. كم شخص حكمنا عليه بظنوننا؟ كم إنسان حرمناه من “الفرصة” التي كان يحتاجها؟ كم من كلمة قاسية طعنت، وكم من كلمة طيبة رفعت؟
علّمتنا هذه الحكاية أن الرحمة ليست شعورًا عابرًا، بل قرار. وأن القلوب الكبيرة لا تبحث عن العيوب لتدين، بل تبحث عن النوافذ المفتوحة لتمرر الضوء.
أيها القارئ…
في يوم من الأيام، قد تقف أنت أمام شخص يحتاج “فرصة واحدة فقط” ليغير حياته. لا تحكم عليه بما سمعته، ولا بما قرأته على الوجوه العابسة. قل ما رأيته بنفسك، وما عرفته حقًا. ربما تكون كلمتك تلك هي الجسر الوحيد بينه وبين النجاة.
ولا تنسَ أن تهمس لنفسك كما قال القبطان يومًا:
“كلنا نحتاج فرصة واحدة للحياة… ولا شيء أقسى من أن تُحرم منها.”
وحين أسدل الستار على الحكاية، لم تعد الفتاة هي تلك التي وصفها الجيران بأقسى الأوصاف، ولم يعد الرجل مجرد خاطب قلق يبحث عن سيرة، ولا ظل القبطان جارًا عجوزًا يوزع النصائح. لقد صار كل واحد منهم رمزًا لفكرة أعمق: أن الرحمة اختيار، وأن الفرصة حياة.
فقد منحت كلمة صادقة فتاة يتيمة طريقًا جديدًا، وفتحت بابًا أُغلق في وجهها طويلًا. ومنحت رجلاً مترددًا طمأنينة ليُقدم على خطوة غيرت حياته أيضًا. وما بين هذا وذاك، علّمنا القبطان – بصمته أحيانًا وكلماته دائمًا – أن العالم لا يُصلحه مزيد من الأحكام، بل مزيد من الأيدي التي تلتقط الساقطين وتدفعهم للأمام.
أيها القارئ…
في كل حيّ هناك “فلانة” تُتهم وتُحاكم بلا دليل. وفي كل شارع هناك “قبطان” قادر على أن يفتح نافذة نور إن قرر أن يرى الحقيقة بعين الرحمة لا بعين الناس. ربما تكون أنت هذا القبطان يومًا، وربما تحتاج يومًا أن تكون أنت من يُعطى تلك الفرصة.
فتذكر دائمًا: هناك قلوب تنتظر كلمة منك، لا حكمًا عليك. وهناك أرواح يكفيها أن تمد يدك… فقط مرة واحدة… ليُكتب لها عمرٌ جديد.
إضافة تعليق جديد