رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 11 مايو 2025 2:29 ص توقيت القاهرة

ناكر الجميل... حين تلدغ اليد التي امتدّت لتُنقذ

بقلم د/سماح عزازي 

في دروب الحياة، لا يُقاس النُبل بكثرة العطاء، بل بصدق القلوب التي تعرف كيف تردّ الجميل، وتحفظ اليد التي امتدّت بالعون في لحظة ضعف. غير أن الواقع كثيرًا ما يُكشّف لنا عن وجوهٍ لا تحمل من الوفاء إلا قشوره، وعن نفوسٍ لا تُجيد سوى الطعن في خاصرة الإحسان.
في هذا الزمن الملتبس، تظل بعض الحكايات، وإن جاءت في ثوب الأساطير، تحمل في طيّاتها من الحكمة ما يفضح الزيف، ويُعرّي ناكري الجميل... أولئك الذين تلدغ ألسنتهم يدًا لم تمتدّ إلا للنجاة

في زمنٍ صار فيه الإحسان مخاطرة، والرحمة تُقابل أحيانًا بالخيانة ، تتكرّر قصةٌ قديمةٌ بحُلَلٍ جديدةٍ كلّ يوم . قصة الإنسان الذي يهب القلب ، فيُردُّ عليه بالخنجر ، والذي 
يفتح الباب لينقذ ، فيُجازى بالخذلان . 
فهل للجميل مكانٌ في عالمٍ تبلّدت فيه المشاعر؟ 
وهل يبقى للوفاء قيمة إذا كان الغدر هو الردّ المتوقّع؟

في زمنٍ اختلطت فيه ملامح الوفاء بظلال الغدر، وضاعت فيه حدود النُبل تحت ركام المصالح، تبقى بعض الحكايات القديمة شاهدة على طبائع لم تتغيّر، وإن تبدّلت الوجوه.

تحكي الأسطورة أن أفعى وقعت تحت حجر ثقيل، وراحت تستغيث، تلفظ أنفاسها وتطلب النجدة. مرّت بها امرأة تحمل قلبًا رقراقًا لا يعرف القسوة، فرقّ لها فؤادها، ومدّت يدها لترفَع الحجر وتنقذ الأفعى من موت محقّق.

وما إن استردّت الأفعى أنفاسها، حتى حدّقت في المرأة بعين باردة، وقالت بوقاحة:
"لقد أقسمت أن ألدغ كل من يمدّ لي يد العون."
صُدمت المرأة وسألتها مذهولة:
"كيف تُكافئين الإحسان بالأذى؟! لقد أنقذتك من الهلاك!"
ردّت الأفعى بلا تردّد:
"هذا قدري ووعدي، وسأفي به، دون ندم أو شفقة."

وهنا قالت المرأة بهدوء الحكمة:
"فلنحتكم إلى أول كائن نصادفه في الطريق."

وصادفتا ذئبًا، فقصّت عليه ما جرى، واستنجدت بحكمته، فقال الذئب:
"لن أحكم قبل أن أرى ما وقع بعيني."

فعادت المرأة والأفعى إلى حيث كان الحجر، ورفعت المرأة الحجر، وساعدت الأفعى على العودة تحته كما كانت. عندها قال الذئب:
"الآن فقط أدركت الحقيقة... دعيها تحت الحجر. فمن لا يعرف للجميل قدرًا، لا يستحق النجاة."

وهكذا انتهت الحكاية، لكنها لم تُطوَ من صفحات الذاكرة. فـ"ناكر الجميل" ليس مجرد صفة، بل طبع أصيل لا يُداويه الإحسان، ولا تُغيّره النوايا الطيّبة.

قصة رمزية؟ نعم. لكنها مرآة لواقع نعيشه.
الأفعى في القصة ليست مجرد زاحف سام، بل رمزٌ لإنسان ناكرٍ للجميل، يرى الخير ضعفًا، ويقابل الإحسان بالعدوان. المرأة رمزٌ للطيبة الفطرية، تلك التي تهرع لتغيث دون حساب. أما الذئب، فهو صوت الحكمة والخبرة، الذي لا تنطلي عليه عواطف اللحظة، فينظر في جوهر الأمور لا مظاهرها.

 كم من يدٍ امتدت لتُنقذ، فكان جزاؤها طعنةً في الظهر؟ كم من قلبٍ منح الأمان، فقوبل بالخيانة؟ إن الحكاية القديمة ليست مجرد أسطورة، بل مرآة تُطلّ على واقع يؤلمنا حين نكتشف أن أكثر من خذلونا هم أولئك الذين منحناهم الثقة دون حساب

إن في هذه القصة القصيرة درسًا بليغًا: ليس كل من تُنقذه يملك قلبًا يُقدّر، ولا كل من تُحسن إليه يستحق الحياة التي وهبتها له.
بعض الأرواح جُبلت على الغدر، وبعض القلوب، وإن نبضت، لا تعرف الرحمة.

فلا تهدر نقاءك في من لا يرى في عطائك سوى فرصة للنهش، ولا تُسرف في منح الأمان لمن لا يُجيد سوى الطعن بعد الإحسان.
ليس كل محتاج أهلًا للنجدة... وليس كل من ساعدته يستحق أن يُنقذ.

  لا يعني هذا أن نُطفئ نور الرحمة في قلوبنا، أو أن نكفّ عن فعل الخير، بل أن نفعل ذلك بعينٍ واعية، تزن الناس بميزان الحكمة لا العاطفة وحدها، وتُدرك أن الطيبة لا تعني السذاجة، وأن الخير لا يُقدَّم لمن لا يقدّره.

وهكذا تمضي الحياة تُعلّمنا أن المعروف لا يُهدر، لكنه لا يُثمر في كل تربة. فبعض النفوس لا تنبت فيها الرحمة، وبعض القلوب لا تعرف إلا الجحود، مهما غمرتها بأمواج العطاء. فلا تأسَ على من قابل إحسانك بالأذى، ولا تندم على خيرٍ بذلته لمن لا يستحق، فالفضل لك لا له، والكرامة لمن يُحسن ثم يمضي، لا لمن يعض اليد التي امتدت لتنقذه من السقوط.
فليكن درسك الأبقى: لا تُراهن على ردّ الجميل، بل على سلامة قلبك، ولا تُكرم مَن تعوّد الغدر، فإن من فطرته اللدغ لا يُرجى منه

 إِنْ أَنتَ أكرَمتَ الكريمَ مَلَكْتَهُ ** وَإِنْ أَنتَ أكرَمتَ اللئيمَ تَمَرَّدَا

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.