رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الاثنين 7 يوليو 2025 1:20 ص توقيت القاهرة

إخفاء تركة الرسول… بين الحقيقة التاريخية وسردية الشك دراسة نقدية لكتاب "إخفاء تركة الرسول"

 للكاتب ثروت الخرباوي

بقلم د/سماح عزازي 

في كل أمةٍ، لحظات تأسيس تشبه الوميض في ظلامٍ دامس… لحظة انفصال الوحي عن الأرض، وانقطاع الصلة المباشرة بين السماء والناس، لحظة غياب النبوة، وبدء السؤال العظيم: وماذا بعد؟ ومن للناس بعد رسول الله؟

تلك اللحظة تحديدًا، التي لم تُروَ في كتب التاريخ إلا على استحياء، والتي طُمست تفاصيلها إما بصمت الإجلال أو بخوف التشكيك، تقف الآن على طاولة النقد والتحليل، بين يدي مفكرٍ قرر أن لا يُسلّم للمألوف، وأن يطرح السؤال ولو أغضب الآلهة، أو أزعج المرويات:
هل كانت الخلافة استمرارًا لنهج النبوة، أم قطيعة صامتة معها؟
وهل دُفنت تركة الرسول مع جسده، أم أُخفيت عن أصحابها بحجة السياسة والمصلحة؟

هكذا ينطلق كتاب "إخفاء تركة الرسول"، للكاتب ثروت الخرباوي، كقنبلة فكرية في وجه المألوف، لا تهدف إلى التشكيك بقدر ما تهدف إلى استدعاء الحقيقة، لا كما كُتبت، بل كما كانت.

لكن، في مواجهة مثل هذا الطرح، يتقافز سؤالٌ لا يمكن إسقاطه:
هل يملك العقل البشري المعاصر أن يحاكم جيل الصحابة بنظرة اليوم؟
وهل يجوز إعادة قراءة تلك المرحلة من زاوية السياسة وحدها، دون استحضار نور النبوة، وعظمة ذلك الجيل الذي حمل الرسالة في أحلك الظلمات؟

في هذا المقال، نغوص في دهاليز الكتاب، ونفكك لغته، ونقرأ ما بين السطور، لا دفاعًا عن أحد، ولا طعنًا في أحد، بل بحثًا عن اتزان مفقود في زمن كثُرت فيه الأقلام وقلّ فيه الورع، وعلت فيه أصوات النقد، وانخفض فيه صوت الإنصاف.

في التاريخ الإسلامي لحظاتٌ لا تمرُّ مرّ السرد، ولا تُطوى في صفحات الكتب كما تُطوى الوقائع، بل تظلُّ شاخصةً في وعي الأمة، محفورة في ذاكرتها، مثقلةً بالأسئلة، ممتلئةً بالتأويلات.
ومن بين تلك اللحظات، تقف لحظة وفاة النبي محمد ﷺ، لا كخاتمة، بل كبداية لصراعٍ فكري وسياسي ممتد، تاه فيه الخيط بين الوحي والسلطة، بين الدين والدولة، بين الوراثة الشرعية والإرادة البشرية.

وفي هذا السياق، يجيء كتاب "إخفاء تركة الرسول"، للكاتب والمحامي ثروت الخرباوي، ليخترق المسكوت عنه، وينبش في المطمور، ويستدعي من التاريخ ما ظنّ البعض أنه قد طُوي.
لكن، هل كان الكتاب بحثًا شجاعًا عن الحقيقة؟ أم أنه سردية شَكّ مموهة بالتحليل؟ وهل أصاب المؤلف حين فتح النار على أولى لحظات ما بعد النبوة، أم أنه أخطأ التوقيت والنية والميزان؟

 الكاتب ثروت الخرباوي... كاتب لا يعرف الحياد
ثروت الخرباوي ليس طارئًا على الساحة الفكرية، بل هو رجلٌ تمرّس في خوض المعارك الفكرية بلا قفازات.
من قبل، كتب عن الإخوان المسلمين وأسرارهم، وساهم في تفكيك خطابهم الديني والسياسي، وها هو اليوم يوجّه بصره نحو "الحقبة المقدسة"، لا ليهدمها، بل - كما يقول - ليقرأها من جديد بعين العقل لا بعين الإجلال الأعمى.

لكن من يقرأ كتاب "إخفاء تركة الرسول" لا يملك إلا أن يتساءل:
هل كان الخرباوي منصفًا، أم أنه استبدل التقديس بالإدانة؟
وهل كان باحثًا أم محاميًا في ساحة اتهام، يوجه أصابع الشك إلى الخلفاء الراشدين، ويضعهم تحت مجهر التاريخ لا الرحمة؟

 الكتاب... من فدك إلى فلسفة السلطة
"إخفاء تركة الرسول" ليس مجرد رصدٍ لقضية "فدك"، ولا رواية عن إرثٍ ماديّ حُجب عن السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، بل هو سؤال كبير عن من يرث النبوة؟
من يحمل بعد موت النبي ﷺ مفاتيح الدين والدنيا؟
هل هي قريش؟
هل هم آل البيت؟
هل هي الجماعة؟
أم أصحاب اللحظة الأقوى سياسيًا في سقيفة بني ساعدة؟

في سياق دراميّ، يعيد الخرباوي رسم ملامح تلك اللحظة المتوترة:
جسد النبي مسجى لم يُدفن بعد،
وفاطمة تبكي أباها،
لكن الصحابة يتشاورون: من يحكم بعده؟
وفي قلب المشهد، يضع الكاتب أبا بكر الصديق رضي الله عنه، لا كصاحب الغار، بل كصاحب القرار... ويبدأ تفكيك الرواية.

 فدك قرية زراعية خصبة قرب خيبر، كانت ملكًا للنبي ﷺ بعد أن صولح أهلها دون قتال، فصارت فيئًا خالصًا له. وبعد وفاته، طالبت فاطمة الزهراء رضي الله عنها بإرثها فيها، فرفض الخليفة أبو بكر الصديق استنادًا لحديث النبي: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة". ومنذ ذلك الحين، أصبحت فدك رمزًا لا لنزاع على أرض، بل لسجال طويل حول السلطة والإرث النبوي.

 بين النص والاجتهاد... أين تقف الحقيقة؟
يرتكز الخرباوي على مفصل جوهري:
حديث أبي بكر "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة".
وهو الحديث الذي استُند إليه لحرمان السيدة فاطمة من إرثها، حسب ما ورد في البخاري ومسلم.
لكن الكاتب يُخضع هذا الحديث لتأويل ناقد، ويطرحه كـ"اجتهاد" لا كـ"وحي"، ثم يُسائل دوافعه:
هل كانت شرعية؟
أم كانت سياسية لحجب امتداد الشرعية عن بيت النبوة؟

من هنا، يُغادر الخرباوي ساحة النصوص إلى ساحة المقاصد.
يفكك السلطة في عهدها الأول، ويزعم أن "الميراث المحجوب" لم يكن أرضًا، بل رمزًا لتقييد الدور التاريخي لآل البيت.
فهل أصاب في استنتاجه؟
أم أنه انزلق إلى محاكمة رموزٍ حملت الإسلام على أكتافها؟

 المعضلة حين يصبح النقد طعنًا
ليس من المروءة العلمية أن نخلط بين البحث والخصومة، وبين النقد والتشويه.
وما من شك أن ثروت الخرباوي يكتب بأسلوبٍ رشيق، وسردٍ مشوق، ولكن اللغة حين تُلامس الصحابة ينبغي أن تتحلى بالميزان الذهبي.
فالحديث عن أبي بكر وعمر وعثمان ليس حديثًا عن ساسة أو زعماء، بل عن رجال زكّاهم القرآن، وربّاهم الوحي، وبناهم الرسول ﷺ حجارةً في جدار الدين.

الزهراء رضي الله عنها أمّ الحسنين، وأمّ الألم النبوي، لكن أبا بكر رضي الله عنه كان كذلك من أول من آمن، ومن أول من نصر، ومن أول من ثبت يوم ارتدّ الناس.
فهل يجوز أن نقيم بينهما خصومة مدفونة، ونُحيلها إلى صراع على إرث؟
أم أن الإنصاف يقتضي أن نقرأ ذلك الخلاف ـ إن صح ـ على أنه اختلاف في التأويل، لا افتراق في القلوب؟

 سؤال الفلسفة هل السياسة أقوى من النبوة؟
يريد الخرباوي من كتابه أن يقول:
"لقد انتصرت السياسة بعد وفاة النبي".
وهي رؤية فلسفية مشروعة في إطار السؤال، لكنها حين تُقدَّم كحقيقة، تصبح خطابًا محفوفًا بالمخاطر.
فهل كانت الخلافة انحرافًا عن مسار النبوة؟
أم كانت استمرارًا واقعيًا لمسارٍ لا بد له من إدارة بشرية بعد انقطاع الوحي؟

لا شك أن التاريخ لم يكن نقيًّا، لكنّه لم يكن خائنًا.
والصحابة لم يكونوا معصومين، لكنهم كانوا أتقى هذه الأمة وأزكاها.
والذين اختلفوا بعد النبي اختلفوا عن صدق، لا عن غدر، وعن اجتهاد، لا عن خيانة.

 الخرباوي... بين شجاعة السؤال وخطورة التأويل
علينا أن نُقرّ أن ثروت الخرباوي يمتلك شجاعة الطرح، وجرأة النبش في التراث.
لكن الجرأة إن لم تتكئ على ميزان دقيق، تتحول إلى مسٍّ بمقامات رفيعة لا تُنال.
ليس كل ما سُكِت عنه يجب فضحه، ولا كل ما اختلف فيه الناس يصبح مؤامرة.

القراءة النقدية مهمة،
لكن حين يتحوّل التاريخ إلى ساحة شُبهات، تفقد الأمة توازنها.
ويصبح ما بُني على دماء الصحابة، مشكوكًا في شرعيته، ومطعونًا في قاعدته.

 الحذر من نار الشك
"إخفاء تركة الرسول" كتاب مثير، بلا شك، يفتح نوافذ للفكر، ويثير جدلاً لا يمكن كتمه.
لكن الجدل في مثل هذه المواطن، إن لم يكن مؤسسًا على إنصاف، قد يُشعل نارًا لا تُطفأ.

لقد مات الرسول ﷺ وترك أمة، لا تركة.
وورثه القرآن، والسنّة، وأصحابه الصادقون، لا أراضٍ ولا دنانير.

فليكن السؤال حرًا، لكن ليكن الصحابة في موضعهم الذي رفعهم الله إليه.
ولنقرأ التاريخ بنور العقل، لا بنار الشك...
فمن حرّك الحروف لينير الطريق، فله التقدير،
ومن حرّكها ليجرّح الصادقين، فالتاريخ لا يرحمه، ولا يغفر له.

ليس من الهين أن تمسك بقلمك لتكتب عن لحظةٍ كان فيها أبو بكر يبكي في محراب النبوة، وفاطمة الزهراء تبكي في محراب القلب، وعليٌّ صامتٌ في دهشة الفقد، وعمر يجلجل في الطرقات كي لا تسقط المدينة في فوضى الموت.

إنها لحظةٌ من نور وظلال... من إيمانٍ و مواقف، من اجتهاداتٍ عظيمة قد تُخطئ أو تُصيب، لكنها لم تكن أبدًا خيانة، ولم تكن أبدًا مؤامرة.

وقد جاء كتاب "إخفاء تركة الرسول" لا ليحاكم فقط، بل ليرفع لافتة السؤال في وجه القداسة، وهي خطوةٌ لا تُذم إن خلَت من الهوى، وتجرّدت من نَفَس التأليب والتأثيم، لكنها - للأسف - لم تخلُ تمامًا من الإيحاء بأن هناك من "أخفى"، ومن "منع"، ومن "اغتصب"، وهي عبارات إن غُلّفت بالتحليل، تظلّ تهزّ جذور الثقة في جيلٍ قال الله فيهم:
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه}.

إنّ إرث النبي لم يكن فدكًا، ولا مالًا، بل كان قرآنًا وسنة وسلوكًا وهديًا ونورًا يهدي به الله من يشاء من عباده.
وإذا كان ثروت الخرباوي قد اختار أن يسير في دربٍ محفوفٍ بالشوك، فإن على القارئ أن يحمل معه ميزان العقل، وبوصلة الإيمان، ومصباح الإنصاف، حتى لا يتحول السؤال إلى شك، والنقد إلى فتنة، والبحث إلى طعنٍ مبطّن.

التاريخ ليس كتابًا مغلقًا، نعم... لكنه ليس أيضًا حديقةً لكل من شاء أن يزرع فيه ظنونه.

فلنقرأ، نعم،
ولنتأمل، نعم،
ولنسأل، نعم،
لكن دون أن نكسر أعمدة النور التي حملت الإسلام على أكتافها،
ودون أن ننقض غزل التاريخ بأيدينا... من بعد قوةٍ أنكاثا.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
4 + 13 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.