رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الاثنين 12 مايو 2025 1:00 م توقيت القاهرة

المشهد العربي الراهن… بين جمر الداخل ونار الخارج

بقلم د/ سماح عزازي

حين تنظر إلى خارطة العالم العربي اليوم، لا ترى حدودًا جغرافية بقدر ما ترى حدودًا من الدم والانقسام والصمت. عالم عربي فقد صوته، وتآكلت أوصاله، وتنازعت عليه الأهواء الإقليمية والمصالح الدولية، حتى صار جسدًا ممزقًا يتناوب على أكله الذئاب من الداخل والخارج.

صراعات الداخل… نار لا تخمد
الداخل العربي يعيش واحدة من أعقد مراحله في التاريخ الحديث.
-في فلسطين، الدم ما زال ينزف، والمقاومة تقاتل وحدها في ميدان معركة غير متكافئة، بينما الأنظمة العربية غارقة في بيانات الشجب والتطبيع.
-في سوريا، لم تنتهِ الحرب بل تغيّرت أوجهها، وأصبح البلد ساحة لتقاسم النفوذ بين قوى دولية وإقليمية.
-في اليمن، الموت يحصد الفقراء، وسط صراع عبثي بالوكالة، تنهار فيه الدولة والمجتمع.
-في لبنان والعراق، الطائفية تُدير المشهد، والفساد أكل الدولة من رأسها حتى قدميها، أما المواطن فبين قهر المعاش وقهر السلاح.
-أما ليبيا، فما زالت رهينة صراع على شرعية ممزقة، تتنازعها قوى متصارعة على سلطة بلا مشروع.

الأنظمة الرسمية… غياب المشروع وانكشاف التبعية
غابت الرؤى، وتكرّست التبعية. كثير من الأنظمة العربية اليوم لا تملك مشروعًا وطنيًا ولا تصورًا نهضويًا. هناك أنظمة تُدار بعقلية أمنية، وأخرى تلهث خلف رضا العواصم الكبرى، بينما تُسحق شعوبها تحت وطأة الغلاء والتضييق وانعدام الأمل.

صعود التطبيع… وسقوط القيم
في خضم الجرائم الصهيونية المتواصلة بحق الفلسطينيين، تتسابق بعض العواصم العربية على موائد التطبيع السياسي والثقافي والاقتصادي، في مشهد يُظهر حجم الانهيار الأخلاقي والاستراتيجي. لم يعد العدو عدوًا، بل صار شريكًا في الرؤية والاقتصاد والأمن، بينما تُجرّم المقاومة، وتُلاحق الأصوات الحرة.

الفتن الناعمة… تفكيك الهوية والمعنى
الفتن اليوم ليست فقط طائفية أو عسكرية، بل ثقافية ناعمة تفتك بالهوية. اللغة العربية تُهمّش، والدين يُشوّه، والتاريخ يُزوّر، والشباب يُغرق في التفاهة الرقمية والمحتوى الموجه، تحت مسمى "الحرية والانفتاح". حرب ناعمة لا تحتاج إلى دبابة، بل شاشة وهاتف وقانون غامض.

اليمن... حرب منسية وأطماع معلنة
في اليمن، تستمر الحرب كأنها قدر أبدي. لم تعد المسألة مجرد صراع داخلي بين حكومة معترف بها دوليًا ومليشيات حوثية مدعومة من إيران، بل تحوّل اليمن إلى ساحة صراع مفتوح لتقاطع المشاريع. الحوثيون، بسلاحهم وعقيدتهم المرتبطة بـ"الولي الفقيه"، تجاوزوا مسألة الحكم المحلي، وأصبحوا ذراعًا متقدمة لمشروع طائفي إقليمي يمتد من طهران إلى بيروت.

لكن الصورة لا تكتمل دون الحديث عن الدور الإماراتي، الذي لا يقل تعقيدًا. فمن خلف شعارات "محاربة الإرهاب" و"دعم الشرعية"، دعمت أبوظبي تشكيلات انفصالية في الجنوب، وسعت للسيطرة على موانئ استراتيجية مثل عدن وسقطرى، وفتحت الباب أمام النفوذ الإسرائيلي عبر التنسيق الأمني والاستخباراتي المباشر، حتى بدا المشهد كأن اليمن يُجزّأ لصالح من يدفع أكثر، لا من يملك الشرعية أو المشروع.

الإمارات، إسرائيل، والخرائط الجديدة
لم تعد الإمارات تخفي دورها في إعادة رسم خرائط المنطقة بما يتناسب مع مصالحها ومصالح حلفائها الجدد. لقد انتقلت من سياسة "النفوذ الناعم" إلى سياسة "التأثير الصلب"، عبر دعم الانقلابات (كما في مصر)، وتمويل الفوضى (كما في ليبيا والسودان)، والمشاركة في حملات التشويه ضد الحركات الإسلامية والمقاومة الفلسطينية، واحتضان تحالفات مع إسرائيل تحت غطاء "السلام الإبراهيمي".

اليوم، العلاقات الإماراتية الإسرائيلية لم تعد سياسية فقط، بل استخباراتية وعسكرية واقتصادية، ووصلت إلى إنشاء قواعد مشتركة في القرن الإفريقي واليمن، والمشاركة في مراقبة مضيق باب المندب، أحد أهم شرايين التجارة العالمية. هكذا تتحول الجغرافيا العربية إلى أوراق ضغط بيد كيان لا يؤمن إلا بالقوة والخديعة، وإمارات صغيرة بأحلام إمبراطوريات مصطنعة.

الولايات المتحدة… أصابع تحرّك نارًا لا تنطفئ
منذ عقود، لم ترفع الولايات المتحدة يدها عن خيوط اللعبة في العالم العربي، لكن إدارة دونالد ترامب تحديدًا مثّلت ذروة الوقاحة السياسية والانحياز الأعمى للصهيونية. في عهده، سقطت كل الأقنعة: القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، والجولان هدية انتخابية، والتطبيع الإجباري تحوّل إلى مقياس "التحضّر"، والمال الخليجي صار وقودًا لحملاته الانتخابية وصفقاته المشبوهة.

ترامب لم يكن مجرد رئيس، بل كان مندوبًا معلنًا للوبي الصهيوني، سعى لتصفية القضية الفلسطينية عبر "صفقة القرن"، وشرعنة الاحتلال، وشيطنة كل من يحمل بندقية دفاع أو حتى فكرة مقاومة. خلف الشعارات الشعبوية، أعاد تشكيل تحالفات عربية هشّة تدور في فلكه، وترك المنطقة ساحة خراب ممنهج، تشتعل فيها الحروب وتُطفأ فيها الإرادات، بينما واشنطن تبيع السلاح وتشتري الصمت.

مصر… العمق الغائب والحضور الحائر
كانت مصر يومًا درع الأمة وسيفها، ومحور الاتزان العربي، فإذا بها اليوم تقف في قلب العاصفة، دون أن تمسك زمامها. فبعد أن أنهكها التراجع الاقتصادي، والضغوط الدولية، والصراعات الداخلية، تضاءل دورها الإقليمي من قيادة المبادرة إلى إدارة التوازنات الهشة. مصر التي حملت يومًا راية التحرر في فلسطين واليمن والجزائر، أصبحت تتحرك اليوم وفق حسابات معقدة، تتأرجح بين الحفاظ على الأمن القومي، وتجنّب غضب الحلفاء، والبحث عن موضع قدم في مشهد تغلب عليه المحاور الجديدة.

في الملف الفلسطيني، تؤدي مصر دور الوسيط الحذر، لكنها تواجه تحديًا بين تعاطف الشارع مع المقاومة، ومتطلبات التنسيق الأمني الإقليمي والدولي. أما في ليبيا والسودان، فالحضور المصري لا يزال مرهونًا بالتحركات الإماراتية والسعودية، وتضارب المصالح الدولية. لقد تقلص الدور المصري لا بسبب ضعف الدولة، بل بسبب غياب المشروع القومي الجامع الذي يُعيد لها مكانتها التاريخية، ويجعل منها فاعلًا لا مُنفعلًا.

أمل المقاومة… وصعود الوعي
ورغم كل هذا الركام، يظل الأمل في وعي الشعوب، وصحوة النخب، وصمود المقاومين. مشاهد البطولة في غزة، وصوت الأحرار من صنعاء إلى بيروت، تعيد رسم المعادلة. المعركة اليوم معركة وعي قبل أن تكون معركة سلاح. معركة استرداد المعنى قبل استرداد الأرض.

العرب على المفترق
العرب اليوم على مفترق طرق: إما أن يعيدوا صياغة وجودهم في مشروع وحدوي تحرري جامع، يعيد الكلمة والقرار والكرامة، أو يواصلوا السير في طريق التمزق والتبعية، حتى يفيقوا وقد صاروا أممًا من الماضي.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.