بقلم د/سماح عزازي
قلتُ له:
يا قلمي... أما تعبتَ من الصمت؟
قال:
بل تعبتُ من الكلامِ الذي لا يُسمع،
ومن الحبرِ الذي يُهدر في الفراغ.
قلتُ له:
أشتاقُ للكتابةِ، لكنّي تائه...
قال:
الضياعُ أوّلُ الطريق،
والحروفُ لا تولدُ إلا من ألم.
قلتُ:
وماذا نكتب؟
العالمُ متخمٌ بالكذب،
والحقائقُ تُجلدُ في الساحات.
قال:
نكتبُ لنحيا، لا لِنُرضي،
نكتبُ لتبقى الحقيقةُ حيّة،
ولو سُحقت تحت الأقدام.
قلتُ له:
خانني التعبير، وجفّت صفحتي...
قال:
فابكِ على الورق،
فالدمعُ أصدقُ من قصائدَ منمّقة.
قلتُ:
كلّما كتبتُ، صرخوا: "اصمت!"
قال:
اكتبْ بصوتِك،
فالحرفُ إن صدق، دوّى كالرعد،
ولو كُتب في الظلال.
قلتُ:
ضاقتْ نفسي من الزيف،
من الأقنعة، من المهرّجين...
قال:
اكتبْ عنهم،
وانزعْ وجوههم بالحبر،
فإن عجزتَ عن تغييرهم،
افضحْهم بالكلمات.
قلتُ:
ومتى نرتاح؟
قال:
حين لا يعودُ القلمُ سلاحًا،
بل زينةً على الرفوف،
حين تُحبسُ الحقيقةُ
خلف قضبان المجاملة.
قلتُ:
سأكتبُ...
فلعلّ الحرفَ يحيي ميتًا،
ويوقظُ نائمًا،
ويُبكي حجرًا.
قال:
بل اكتبْ...
فالكتابةُ عهدٌ بينكَ وبين الله:
ألا تسكتَ عن الحقّ.
قلتُ له:
لكنّهم كثيرون...
وجيوشُهم من الجهل،
تُصفّقُ للباطل، وتلعنُ كلّ من يقول لا.
قال:
لسنا نُحصي الأعداد،
نحنُ نُشعلُ شمعةً في عتمة،
وإن أطفأوها، كتبنا نورها في السطور.
قلتُ:
أخافُ أن أُرهق...
أن ينكسر قلبي قبل أن يُكمل الحبرُ شهادته.
قال:
القلوبُ التي تنكسرُ لأجل الحق،
يَجبرُها اللهُ بنورٍ لا يخبو.
قلتُ:
كم مِن حرفٍ ذُبح،
وكم من كلمةٍ صُلبت على بواباتِ النفاق؟
قال:
كلُّ حرفٍ نقيّ،
يبقى حيًّا في ذاكرةِ الصادقين،
ولو أُحرقتْ دفاتره ألف مرة.
قلتُ:
يقولون: "لا فائدة، الكلمات لا تُغيّر شيئًا!"
قال:
بل تغيّر...
الكلمةُ شقّت بحرًا لموسى،
وأسقطت عرشًا لفرعون،
وأحيتْ أمّةً بكلمة "اقرأ".
قلتُ:
أنا رجلٌ واحد، في عالمٍ لا يسمع.
قال:
إبراهيمُ كان أمّة،
ويوسفُ نطقَ بالحكمةِ في سجن،
وسُجّل في التاريخ نبيًّا.
قلتُ:
هل سنُنتصر؟
قال:
سنُكتب في سجلّ الصادقين،
ذاك هو النصرُ الذي لا يُمحى.
قلتُ:
سأكتبُ،
ولو سال دمي مع الحبر،
ولو صرخوا: "اكتم!"
قال:
اكتبْ...
فالحرفُ إن صدق،
صار سلاحًا لا يُكسر،
وإن خُتم بالحق،
صار أمانةً في عنقِ الزمان.
قلتُ له:
وإن جفّتِ الأقلامُ من حولي،
وغابَ عن دفاتري الصدى؟
قال:
ازرعْ صمتَهم حولكَ سكينة،
وواصل...
فالرعدُ لا ينتظر التصفيق،
ولا البرقُ يستأذنُ قبل أن يُضيءَ المدى.
قلتُ:
تعبتُ من التكرار،
كأنّنا نُعيدُ ذات الحكاية في كلِّ عصر،
ونُلدغُ من ذاتِ الكذب ألف مرة.
قال:
نُكرّر، لأنّهم لا يتعلّمون،
ونكتبُ، لأنّ التذكيرَ فريضة،
ولأنّ الصدقَ لا يُمَلّ،
حتى وإن عافته آذانُ الغافلين.
قلتُ:
ولكنهم يسخرون منّا،
يُعيّروننا بالفشل،
ويُطاردوننا باتهاماتِ الجنون.
قال:
دعهمْ،
فالأنبياءُ سُمّوا مجانين،
والمصلحون وُصِفوا بالشّاذين،
لكنّ التاريخَ لم يذكرْ سواهم.
قلتُ:
أخشى أن يأتي يومٌ،
نُجبر فيه على الصمت،
أو يُصادَرُ فينا حتى الحرفُ الأخير.
قال:
إنْ صادَروا الصوتَ،
فلن يصادروا المعنى،
وإن منعونا من الورق،
سنكتُب على جدرانِ القلبِ،
وسيسمعنا مَن بقي فيه حياة.
قلتُ:
هل للحرفِ روح؟
هل للكلمةِ نبض؟
قال:
نعم…
إن خرجتْ من قلبٍ صادق،
كانت أقوى من السيف،
وأبقى من العمر.
قلتُ:
فاشهدْ عليَّ...
أنّي ما خنتُ الحبر،ولا بعتهُ
عند أولِ طريقٍ مرصوف بالمديح.
قال:
أشهدْ...
وقد جعلتُ منكَ نذيرًا،
تكتبُ لتُوقظ،
وتصمتُ لتُفكّر،
وتحيا... لتشهدَ على زمنٍ
خان فيه الناسُ الحروف.
قلتُ:
فيا ربّ الحروف،
ويا واهبَ النورِ في دُجى العقول،
اشهدْ عليّ...
أنّي ما كتبتُ يومًا طمعًا،
ولا سطّرتُ مدادًا لوجهِ دنيا،
بل كنتُ أبحثُ عنك في كلّ معنى،
وأستدلُّ على وجهكَ في كلّ صدقٍ،
وأستنجدُ بكَ في كلّ صمت.
اجعلْ قلمي شهيدًا،
إذا أنكروني،
وشاهِدًا، إذا جحدوا الحقَّ في كلامي.
اجعلْ كلَّ حرفٍ صدحتُ به،
نجاةً لي في ساعةِ الحَيرة،
وسلاحًا في وجهِ الطغيان،
وسُلوانًا لقلوبِ المنكسرين.
يا ربّ...
إن جفّ حبرُ الصادقين،
فأمطرْ من رحمتكَ سطرًا لا ينتهي،
وإن أُغلِقت في وجوهنا الصحف،
فافتحْ لنا كتابًا عندك،
تُسجَّلُ فيه النوايا قبل الأفعال،
والدمع قبل المداد،
والحقّ، ولو كتموه، في أعلى عليّين.
هذا عهدي، وهذا قلمي،
فاشهدْ يا ربّ… أني ما خذلتُه،
ولا خنتُ عهدك في الحرف.
إضافة تعليق جديد