بقلم د/سماح عزازي
في لحظة إقليمية موّارة بالتصعيد والتهديد، حيث تتشابك خطوط النار بين طهران وواشنطن، وتتعالى قرقعة السلاح فوق مياه الخليج، تتقدّم السيادة الوطنية لتفرض منطق الدولة وحكمة القرار. وفي قلب هذه العاصفة، اختارت دولة قطر أن تقف في موقع الدولة الراشدة، فقررت إغلاق مجالها الجوي مؤقتًا، لا خضوعًا للخوف، بل انحيازًا للأمن الوطني ودرءًا لمخاطر لا تتحكم بها الحسابات المحلية وحدها، بل تعصف بها توازنات إقليمية مضطربة.
في تطور لافت يعكس تعقيدات المشهد الإقليمي المتصاعد، أعلنت دولة قطر، يوم الإثنين 23 يونيو 2025، قرارًا بإغلاق مجالها الجوي مؤقتًا، في إجراء وُصف بأنه "احترازي سيادي"، على خلفية التهديدات الأمنية الناتجة عن التصعيد الإيراني – الأمريكي، الذي بلغ ذروته بعد الهجمات الصاروخية الإيرانية التي طالت قواعد أمريكية في المنطقة، بينها قاعدة "العديد" الجوية داخل الأراضي القطرية.
القرار الصادر عن وزارة الخارجية القطرية، والمنشور عبر منصاتها الرسمية، جاء بصيغة واضحة: «حرصًا على سلامة المواطنين والمقيمين والزائرين، قررت دولة قطر إغلاق مجالها الجوي مؤقتًا حتى إشعارٍ آخر، مع المتابعة المستمرة للمستجدات الإقليمية». وقد حمل هذا الإعلان في طياته رسائل سياسية وأمنية عميقة، تعكس حجم التحديات التي تفرضها لحظة إقليمية مضطربة.
التصعيد في الإقليم سياق القرار القطري
جاء قرار الدوحة في أعقاب تطور خطير تمثل في عملية "بشائر الفتح" التي أطلقتها إيران، ردًا على ضربات جوية أمريكية استهدفت منشآت نووية حساسة داخل أراضيها، في مناطق فوردو وأصفهان ونطنز، وهو ما دفع طهران إلى قصف مواقع أمريكية في الخليج العربي، بينها قاعدة "العديد" القطرية، إحدى أكبر القواعد الجوية الأمريكية خارج الولايات المتحدة.
وأعقب الهجوم تحركات دبلوماسية وأمنية واسعة، حيث استدعت قطر السفير الإيراني وقدّمت احتجاجًا رسميًا، مؤكدة في بيانها أن ما جرى «انتهاك خطير لسيادة الدولة وللقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة»، ومعلنة احتفاظها الكامل بحق الرد واتخاذ ما يلزم من تدابير دفاعية.
وبالتوازي، صدرت تحذيرات من بعثات أجنبية، أبرزها السفارة الأمريكية والسفارة البريطانية في الدوحة، طالبت فيها مواطنيها بتوخي الحذر والبقاء في أماكن آمنة، في حين تصاعدت موجة استنفار داخل البعثات الدبلوماسية في الخليج.
أبعاد ودلالات القرار القطري
قرار إغلاق المجال الجوي، رغم كونه إجراء فني–أمني في ظاهره، إلا أنه يحمل دلالات استراتيجية تتخطى الجانب اللوجستي، ومن أبرزها:
تأكيد السيادة الوطنية
قطر في هذا القرار ترسم بوضوح حدود السيادة، وتُبرِز حقها في حماية أمنها القومي دون أن تنجر إلى صراعات الآخرين.
رسالة للداخل والخارج
رسالة طمأنة للداخل القطري مفادها أن الدولة تضع أمن المواطن فوق أي اعتبار، ورسالة للخارج بأنها دولة تدير الأزمات بحكمة سيادية.
نموذج في إدارة المخاطر
القرار عكس قدرة استباقية في احتواء المخاطر الجوية المرتبطة بأي رد فعل إيراني محتمل، لا سيما في ظل احتمال استهداف منشآت عسكرية أو حيوية أمريكية مجددًا.
تنسيق دولي وخليجي
ما صدر من الدوحة ترافق مع تنسيق دبلوماسي مع واشنطن ودول مجلس التعاون، في إشارة إلى أن القرار لم يكن منفردًا، بل محسوبًا في إطار شبكة تحركات إقليمية أوسع.
الخليج في عين العاصفة… وقطر على الحدّ الفاصل
الموقع الجغرافي الحساس لدولة قطر، وتحديدًا استضافتها لأكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، يجعلها في قلب أي رد فعل انتقامي إيراني، وهو ما يدفع القيادة القطرية إلى انتهاج سياسة "الاحتراز السيادي" ضمن استراتيجية النأي عن الانخراط المباشر.
وقد بدأت دول خليجية أخرى اتخاذ خطوات مشابهة؛ حيث أعلنت البحرين والإمارات إجراءات طيران مماثلة، وأغلقت مصر ممراتها الجوية أمام حركة الطيران المتجهة شرقًا، في مشهد يعكس خشية إقليمية عامة من تحول الخليج إلى مسرح مواجهة مفتوحة.
بين الأمن والسيادة… قراءة مستقبلية
القرار القطري، رغم كونه مؤقتًا،
إلا أنه يحمل أبعادًا مستقبلية محتملة:
السيناريو التفسير
استمرار الإغلاق الجوي في حال تصاعد الهجمات الإيرانية، واستهداف مزيد من المنشآت
تحرك قانوني أممي قطر قد تلجأ إلى مجلس الأمن لمحاكمة "انتهاك سيادتها"
تصعيد داخلي وخارجي في حال تكرار الهجمات على القواعد العسكرية داخل الأراضي القطرية
قطر… السيادة أولًا
بهذا القرار، تؤكد قطر أنها تقف عند خط فاصل بين إدارة الأزمة الإقليمية، والحفاظ على أمن الدولة وسيادتها. الإغلاق الجوي ليس تراجعًا، بل تثبيت لمبدأ أن الأمن القطري ليس ورقة تفاوض، وأن سلامة الأجواء القطرية لا تقبل العبث أو التساهل.
وفي ظل مشهد إقليمي ملبّد بالتهديدات، تبقى خيارات قطر مفتوحة، لكنها محكومة بثوابت الدولة الحديثة: السيادة، الشرعية، والتحرك ضمن القانون الدولي.
بين لغة الصواريخ ولهيب التصعيد، اختارت قطر أن تتحدث بلغة السيادة، وأن تكتب موقفها بمداد القانون لا البارود. قرار إغلاق المجال الجوي لم يكن انسحابًا من المعادلة، بل تثبيتًا لموقع متزن في خضم اختلال التوازنات. وحين تعلو أصوات الصراع، تبقى قيمة الدولة مرهونة بقدرتها على إدارة التهديد لا بالارتهان له، وهو ما أثبتته الدوحة، مرة أخرى، حين وضعت أمنها فوق كل اعتبار
إضافة تعليق جديد