رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 4 مايو 2025 2:04 ص توقيت القاهرة

تاج الصبر... لمن يستحقه بقلم د/سماح عزازي

في زمنٍ تتهاوى فيه القيم، وتبهت فيه المواقف، ينهض
شعب أعزل من تحت الركام ليعيد تعريف الصبر من جديد. شعبٌ لا يمتلك من أدوات الحرب شيئًا، لكنه يمتلك ما هو أعظم: الإيمان، والعقيدة، وكرامة لا تنحني. في غزة، تلك البقعة الصغيرة على خارطة العالم، يُكتب تاريخ يفوق
الخيال، وتُسطر ملاحم لا تصدّقها العقول. هناك، لا تُروى المآسي بالبكاء، بل تُخَطّ على الجدران المهدّمة بصوت
التكبير والدعاء.

أمام مشاهد الفقد التي لا تحتمل، يقف العالم مذهولًا... لكن الغزيين لا يقفون. يسيرون، يكملون، يبتسمون للسماء ويقولون: "حسبنا الله ونعم الوكيل". من بين دموع الأمهات، وركام البيوت، ووداع الشهداء، ينبثق معنى جديد للصبر، يتجاوز ما قرأناه يومًا عن الخنساء، ويُحرج كل من اكتفى بالمشاهدة.

كثيرًا ما استوقفتنا قصة الخنساء، الشاعرة التي ودّعت أبناءها الأربعة في معركة القادسية، ولم تنبس ببنت شفة إلا تسليمًا بقضاء الله، وحمدًا لربها أن نال أبناؤها شرف الشهادة. كنا نقرأ عنها في كتب التاريخ ونظن أن تلك القصص تنتمي لعالم الأساطير، أو أن مبالغات الرواة قد ضخّمت من صبرها ورباطة جأشها. فمن ذا الذي يقدر على احتمال فَقْد أربعة من فلذات كبده دفعة واحدة، ثم يشكر الله على ذلك!

لكن غزة علّمتنا ألا نندهش بعد اليوم.
عام ونصف من الجمر والدمار والخذلان، وثّق خلالها التاريخ بالصوت والصورة نماذج بشرية تحطّمت عندها كل مقاييس الصبر المعروفة. فأمام عدسات العالم، ظهر آباء وأمهات فقدوا أبناءهم وأحفادهم وبيوتهم وأحلامهم، ومع ذلك كانوا هم من يُثبّت من يشاهدهم، لا العكس.

قصة الشاعرة د. آلاء القطراوي ليست مجرد فاجعة شخصية، بل مرآة لأسطورة حية تمشي على أرض خانيونس. فقدت أبناءها الأربعة دفعة واحدة في جريمة صهيونية مقززة، فحسبنا أن القلم الذي خطّ أجمل قصائد الحياة سيكسره الحزن، وأن القلب الذي نبض بالأمومة سيصمت إلى الأبد. لكن آلاء نهضت من تحت الركام، بكلماتها، بإيمانها، بروحها الثابتة، وكأنها تقول للعالم: "لم أُهزم".

وفي مشهد آخر لا يقل رهبة، وقف أبٌ من عائلة أبو مهادي أمام جثامين أبنائه الستة، ستة من خيرة الشباب، فصلى عليهم إمامًا، ودعا لهم شاكرًا حامدًا، في لحظةٍ خرسَ فيها اللسان، وانحنى فيها العقل إجلالًا. أي معدن هذا؟
أي قلب يَسَع هذا الألم دون أن ينفجر؟
أي صبر يتجاوز صبر الخنساء نفسها؟

لقد ظننا أن صبر الخنساء هو قمة ما يُروى في الثبات، لكن الغزيين – أمهاتٍ وآباءً، أطفالًا وشيوخًا – قد تجاوزوا كل خيال. لم يعد صبرهم يحتاج إلى تعليق، بل إلى خجل. خجل منا نحن، الذين اكتفينا بالمشاهدة، والتحسّر، وترديد العبارات الخاوية.

أهل غزة لا يحتاجون إلى مدائحنا، ولا إلى عواطفنا. ما يقدمونه ليس عرضًا بطوليًا، بل تضحيات تُكتب بماء النور في سجلّ الخلود. إنهم لا ينتظرون جزاءنا نحن، بل جزاء ربٍّ لا يضيع عنده مثقال ذرة.

في غزة، لم يعد الموت نهاية، بل بداية لحياة أعظم تُكتب في سجل الخالدين. لم يعد الفقد مأساة، بل رسالة. لم يعد الصبر خيارًا، بل هوية يتوارثها الأبناء عن الأجداد كما يتوارثون مفاتيح البيوت المهدّمة. في غزة، تختلط دموع الأمهات بندى الفجر، وتعلو صيحات التكبير فوق أصوات القنابل، ويصبح الرحيل شهادة، والثبات معجزة.

نعم، لقد خذلناهم، وتركناهم وحدهم في العراء، لكنهم لم يتخلّوا عن كرامتهم ولا عن وعدهم لله. وقفوا، وما زالوا يقفون، وحين نُسأل نحن غدًا: "أين كنتم؟"، لن نجد إلا الصمت خجلًا من أعينٍ ودّعت أبناءها بالدعاء، وصدورٍ احتضنت ركام البيوت كأنها جوائز.

أيها الصامدون على ثرى غزة، لا تاج فوق رؤوسكم
إلا تاج الصبر، ولا وسام أنقى من دماء أبنائكم، ولا شفاعة أرجى من دعائكم في جوف الليالي المظلمة. جزاؤكم ليس عندنا، فمهما قلنا ومهما كتبنا، نعجز عن ردّ الجميل. جزاؤكم عند من لا يُضيع أجر المحسنين... وأحسب أن الخنساء، إن رأتكم على أبواب الجنة، ستنزل عن عرشها، وتقبّل جباهكم، ثم تقول بصوت يرتجف إعجابًا: "هؤلاء سادتي... وهؤلاء سادة الصابرين لن تجد ما تهديهم إياه سوى تاجها... ستنزعه عن رأسها وتضعه فوق رؤوسهم، عن رضا ويقين، فهم الأحق به، وهم أهله.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.