رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 2 أغسطس 2025 7:30 ص توقيت القاهرة

السلسلة الأدبية في حضرة الغياب... كل شيء ينكسر

المقال السابع
حين يصبح الغياب لغة أخرى للحب
بقلم د/ سماح عزازي
ثمة لحظات في الحياة لا تعلن قدومها، بل تهجم على القلب كما تهجم العواصف على المدن النائمة.
لحظة واحدة تكفي لتغيّر طعم كل شيء: ضوء الصباح الذي كان يبهجك، طعم القهوة الذي كان يوقظك، الطريق الذي كان يأخذك نحو أحبتك.
تلك اللحظة هي الغياب…
ذلك الغياب الذي لا يكتفي بأن يسرق منّا الوجوه، بل يسحب معه الألوان من الصور، والنغم من الأغاني، والنبض من اللحظات.
في البداية، نظن أن كل شيء انتهى، وأن الحب الذي كان يسكننا رحل مع من رحلوا.
نظن أن الطرق انقطعت، وأن السماء أُغلقت، وأن القلب لن يعرف الحياة من جديد.
لكن ببطء، شيئًا فشيئًا، نتعلم أن الغياب ليس نهاية الحكاية، بل صفحة جديدة من الحبّ، صفحة لم نقرأها من قبل.
ففي غيابهم، نكتشف أن للحب لغة أخرى، لغة لا تُكتب بحبر ولا تُقال بصوت، لكنها تنبض في أعماقنا كما لو أن أرواحهم ما زالت تجلس معنا حول المائدة نفسها.
هناك لحظة ما، لا يراها أحد ولا يسمعها أحد، لكنها تغيّرنا إلى الأبد.
لحظة نعرف فيها أن الغياب لم يعد مؤقتًا، وأن الأبواب التي كانت تُفتح كل صباح، لن تُفتح مرة أخرى كما كانت.
في البداية، يسحقنا هذا الإدراك.
نشعر كأن كل شيء يتداعى: الجدران، الذكريات، حتى أنفاسنا التي تتثاقل.
لكن شيئًا غريبًا يبدأ بالتشكل وسط هذا الركام — شيء لا نتوقعه: لغة جديدة للحب.
الغياب لا يبدأ قاسيًا فقط، بل صامتًا أيضًا.
يصمت كل شيء، حتى أصواتنا نحن.
نجلس أمام مقعدهم الفارغ فلا نجرؤ على الكلام، نمرّ بجانب صورهم فلا نرفع عيوننا إليها، كأننا نخشى أن تفضح دموعنا كل شيء.
لكن الصمت لا يبقى صمتًا طويلًا…
فبعد أن يهدأ الألم شيئًا ما، يبدأ هذا الصمت في التحول إلى لغة خاصة بيننا وبين من رحلوا.
في حضرة الغياب، نتعلم أن الحب لا ينتهي برحيل من نحب، بل يتحوّل إلى شكل آخر.
لم يعد الحب هو المكالمات الطويلة أو الضحكات العالية أو اللقاءات الموعودة،
بل أصبح حوارًا صامتًا بين القلب والذاكرة.
نحدثهم من دون كلمات.
نسألهم من دون صوت.
ونسمع الإجابات في هبوب ريح خفيفة على نافذة مغلقة، أو في أغنية قديمة تتسلّل صدفة إلى أذاننا.
الغياب يجعلنا نرى التفاصيل الصغيرة بعين جديدة.
تصبح الأشياء البسيطة رسائل حبٍ خفية:
– الفنجان الذي كانوا يشربون فيه قهوتهم كل صباح لم يعد مجرد فنجان؛ صار رابطًا سريًا بين عالمنا وعالمهم.
– رائحتهم العالقة في وشاح قديم ليست مجرد أثر؛ إنها ذاكرة تتنفس كلما لامسنا القماش.
– الأغاني التي أحبّوها، الأحرف التي خطّوها، حتى مقعدهم الفارغ… كلها تصبح لغات حبٍّ صامتة لا تحتاج ترجمة.
ومع الأيام، نتعلم أن الغياب ليس عدوًّا للحب… بل امتداد له.
الحبّ الذي كان صاخبًا في حضورهم، يتحوّل إلى حبّ متأمل في غيابهم.
حبّ لا يحتاج صوتًا عاليًا، لأنه يعيش في العمق.
حبّ يجعلنا نبتسم للسماء حين نشعر بهم قريبين، ونُصلّي لهم في الليل كأننا نكتب لهم رسالة بالدموع.
إنه حبٌّ أكثر نقاءً، لأن الغياب نزع عنه كل المطالب وكل الشروط.
لم يعد حبًّا يريد لقاءً أو مكالمة أو موعدًا؛ صار حبًّا يكتفي بالدعاء، بالذكرى، وبالإيمان أن الحبّ أقوى من الموت.
حين نحبّ أحدًا بعد غيابه، نبدأ في تغيير معنى الحياة نفسها.
لم نعد نعيش لأنفسنا فقط.
نعيش لأجلهم.
نرتب البيت كما كانوا يحبّون، نزرع شجرة في حديقة لم يروها، نضحك ضحكة كانوا يتمنون أن يسمعوها.
حتى النجاحات الصغيرة، نُهديها لهم في صمت:
“هذا الإنجاز لك، وهذه الضحكة لك، وهذا القلب الذي ينبض بعد كل هذا الألم… لك.”
ولأن الحب بعد الغياب لا يعرف الحدود، تصبح حياتنا مليئة بطقوس صغيرة لا يعرف سرّها أحد سوانا:
نترك وردة على الطاولة بلا سبب.
نضع كوب ماء بجانب السرير وكأنهم سيعودون في الليل.
نقرأ الفاتحة حين نمرّ بمكانٍ كانوا يحبّونه.
هذه الطقوس ليست جنونًا، بل لغة جديدة للحبّ — لغة اخترعناها نحن ومن نحب كي لا ينقطع الحوار أبدًا.
هكذا يُعلّمنا الغياب أن الحبّ ليس مرتبطًا بالجسد، وأن الحضور ليس شرطًا للحب.
نتعلم أن الغائبين يمكن أن يكونوا معنا دائمًا، في الهواء الذي نتنفسه، في الخطوات التي نخطوها، في القصص التي نرويها لأطفالنا عنهم، وفي الدعوات التي نصعد بها إلى السماء كل ليلة.
الغياب لا يُطفئ الحب…
إنه يعيده إلى جوهره، إلى صورته الأولى: حبّ نقي، بلا مقابل، بلا انتظار، حبّ يملأ القلب حتى وهو مكسور.
ورغم أن الغياب يثقل القلب ويكسر الأيام، إلا أنه يكشف لنا سرًّا لم نكن لندركه في حضرة الامتلاء: أن الحنين ليس لعنة بالكامل، بل هو شاهد على أن الحب ما زال حيًّا فينا، وأن أرواح من نحب لم تغادرنا تمامًا. فكل دمعة صادقة هي وعدٌ بالوفاء، وكل ذكرى تتوهج في الظلام هي طريق خفيّ نحو اللقاء، وكل وجع نحمله بصبر يتحول مع الوقت إلى نور يُضيء الدرب الذي نمشيه… لأجلهم، دائمًا لأجلهم.
وفي آخر المطاف، ندرك أن الغياب لا يُطفئ الحب كما كنا نعتقد.
هو فقط يعيد صياغته.
يحوّله من لقاءات ننتظرها إلى دعوات نهمس بها في سجودنا، ومن ضحكات نتشاركها إلى دمعة حانية تسيل بصمت حين نذكر أسماءهم.
الحب في الغياب لا يصير أضعف… بل يصير أنقى.
نُحبّهم بلا مقابل، بلا انتظار، بلا مواعيد؛ نحبّهم لأننا لا نعرف كيف نتوقف عن الحب، لأن أرواحنا تعلّقت بأرواحهم كما تتعلق النجمات بالسماء.
وهكذا نفهم أخيرًا أن الغياب ليس ظلامًا، بل ظلّ نورٍ باقٍ في القلب.
وأن الحب الذي نحمله لمن رحلوا لا ينكسر ولا يتبخر، بل يظلّ حاضرًا، يقودنا، يربّت على أكتافنا في لحظات الانكسار، ويهمس لنا أن نعيش…
لأجلهم، دائمًا لأجلهم.
بقلم د/ سماح عزازي
"في منتصف الطريق، يُولد أصعب الحنين… لكنه الحنين الذي يجعلنا نستمر."

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
3 + 5 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.