بقلم /سماح عزازي
على أطراف الحلم، حيث تلتقي الحقيقة بالذكرى، تنبثق الطرق البعيدة كخيوط ضوء غائمة تمتد في الأفق، ثم تختفي في ضباب لا يكشف عما وراءه. هناك، حيث الغياب سيد المسافة، وحيث الهواء مثقل برائحة من رحلوا، يصبح السير فعل مقاومة، والالتفات إلى الوراء خيانة لصبر القلب. في الطرق البعيدة، لا يسير الجسد وحده، بل تتبعه الروح وهي تجر وراءها صناديق من الذكريات، بعضها يلمع بالفرح وبعضها غارق في العتمة. وكل خطوة على هذه الأرض المغبرة تثير فيك زوبعة من الصور والأصوات، حتى تشعر أن الطريق ذاته يراقبك، وأن غباره يحفظ بصمات الذين مروا من هنا قبلك. هي طرق لا تُقاس بالخرائط، ولا تحدها المعالم الجغرافية، بل تُقاس بعدد القلوب التي فقدت في نهاياتها، وبعدد الحكايات التي لم تجد خاتمتها.
هناك طرق بعيدة لا نعرف إن كنا سنعود منها، وطرقات أخرى لا نعرف إن كان الراحلون عنها سيعودون إلينا. على أطراف الذاكرة، يتناثر غبار تلك الطرق، محملًا بذكريات ثقيلة ووجوه لم نعد نلمحها إلا في الصور الباهتة. رائحة الراحلين تظل عالقة في أنفاسنا، كأنها وعدٌ لم يُتم، أو حكاية توقفت عند منتصف الجملة.
كل طريق بعيد يحمله القلب في داخله، لا تُقاس مسافته بالأميال، بل بالخطوات التي مشيناها بأمل، واللحظات التي توقفنا فيها نتلفت خلفنا نبحث عن ملامح لم تعد هناك. تلك الطرق تكتظ بأصوات الراحلين، بأحلامهم، بضحكاتهم التي كانت تشبه موسيقى خفيفة ترافقنا في المسير. لكن حين تلتفت الآن، لا ترى إلا الغبار، غبار يحمل أثقال الغياب ويدفن تحت طبقاته كل دفء عرفناه.
رائحة الراحلين ليست كأي رائحة… إنها مزيج من أشياء لم يعد بالإمكان لمسها: عطرهم الذي يظل في ثنايا ملابس قديمة، رائحة القهوة التي كانوا يعدونها في الصباح، حتى رائحة المطر حين كانوا يفتحون النوافذ لاستقباله. هذه الروائح لا تزورك إلا فجأة، لتأخذك على حين غرة إلى عمق الذاكرة، حيث لا شيء يحدث إلا أن قلبك يعود إلى الانكسار الأول.
أصعب ما في الطرق البعيدة أن بعضها يبدأ من بيتك… ثم يبتعد، يبتعد، حتى يغيب عن مدى البصر، ولا تعرف أين توقف الراحلون فيه، ولا إن كانوا توقفوا أصلًا. إنك تحاول أن تلتقط خيوطًا من أثرهم، أن تقرأ الغبار ككتاب قديم، تبحث في طبقاته عن خطٍ كتبوه بمرورهم، عن بصمة حذاء أو أثر ظل… لكن الغبار صامت، والغبار لا يجيب.
والغريب أن الغياب يعلّمك لغة جديدة، لغة لا تُكتب بحروف، بل تُقرأ برائحة، وتُفهم بطعم الهواء في الأماكن التي مروا بها. قد تمر في الطريق نفسه بعد سنوات، فتشعر بانقباض قلبك فجأة، لا لأنك تتذكر، بل لأن روحك تعرف أن هذه المسافة كانت لهم، وأن خطواتك الآن تحاول أن تتقاطع مع خطواتهم القديمة.
إن الطرق البعيدة تعلمنا أن الفقد ليس حدثًا واحدًا، بل سلسلة متكررة من اللحظات الصغيرة التي نعيد فيها الفقد من جديد. كل صباح لا تسمع فيه صوتًا اعتدت عليه، كل مساء لا ترى فيه ظلًا كان يشاركك الجلوس، كل مكان فارغ على المائدة… كلها طرق صغيرة تضاف إلى الطريق الكبير الذي رحلوا فيه.
لكن، رغم مرارة الغياب، تظل تلك الطرق حاضرة فينا كعلامات فارقة. ربما لأن غبارها يذكرنا أننا مشيناها بأقدامنا، وأن كل خطوة كانت تحملنا نحو وعي أكبر بأن الحب، مهما غاب جسده، يظل عالقًا في الهواء من حولنا، في تفاصيلنا، في أرواحنا التي تغيرت بسببه.
ومع مرور الأيام، تبدأ الغيوم التي حجبت الطريق في التبدد قليلًا، ليس لأن الألم زال، ولكن لأن الروح تعلّمت أن تحمله معها. تتغير نبرة الذكرى، فتغدو أقل صخبًا وأكثر هدوءًا، مثل أغنية قديمة تحفظها عن ظهر قلب، لم تعد تبكيك كما كانت، لكنها ما زالت توقظ شيئًا دافئًا في داخلك.
ربما في النهاية، الطرق البعيدة لا تنتهي فعلًا… ربما هي تلتف في دوائر خفية وتعود بنا، بشكل أو بآخر، إلى نقطة اللقاء الأولى. وربما الراحلين، مهما ابتعدوا، يظلون يقيمون في أماكن سرية داخلنا، لا تصل إليها المسافات، ولا يبهت منها العطر.
وفي نهاية الطريق، حين يهدأ الغبار، وتغيب الشمس وراء تلال بعيدة، تدرك أن الرحلة لم تكن لتبحث عنهم فقط، بل لتبحث عنك أنت وسط كل هذا الغياب. تكتشف أن رائحة الراحلين ليست مجرد عبق عابر، بل هي البوصلة الخفية التي قادتك في التيه، وحمتك من أن تنسى. الطرق البعيدة، برغم قسوتها، علّمتك أن المسافات ليست دائمًا عدوًا، وأن الغياب، مهما طال، يترك في القلب ضوءًا خافتًا، يشبه القمر حين يرافق المسافر في الليالي الطويلة. قد يعود الراحلون أو لا يعودون، لكن أثرهم باقٍ، مطبوع في ملامح روحك، في خطواتك التي تغيّرت، وفي نظرتك التي باتت أعمق وأكثر معرفة بطبيعة الفقد. وفي لحظة صادقة، وأنت واقف عند آخر منعطف، تدرك أن الطرق البعيدة لا تنتهي… بل تتحول إلى دروب داخلية، تسكنك إلى الأبد، وتذكّرك أن كل غياب، مهما كان موجعًا، هو فصل من كتاب حياتك، وأنك، رغم كل شيء، ما زلت قادرًا على السير.
إضافة تعليق جديد