رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الاثنين 11 أغسطس 2025 1:47 م توقيت القاهرة

بين الإصلاح والتحديات… كيف تعيد مصر صياغة أولوياتها الوطنية؟

بقلم د/سماح عزازي 

في تاريخ الأمم لحظات تُشبه الممرات الضيقة بين جبلين شاهقين، تمر خلالها الدولة وهي تحمل على كتفيها أوزان الحاضر وأعباء الماضي وتطلعات المستقبل، فلا مجال للعودة إلى الوراء، ولا رفاهية للتوقف، ولا بديل عن المضي قُدمًا، مهما كان الطريق محفوفًا بالصخور والمنحدرات. ومصر اليوم في مثل هذه اللحظة، لحظة تختلط فيها ضرورة الإصلاح بوطأة التحديات، وتتقاطع فيها الأزمات الداخلية مع الضغوط الخارجية، حتى كأنها لعبة شطرنج كبرى تتحرك على رقعتها كل القوى الإقليمية والدولية، ولكل لاعب هدف، لكن الهدف المصري يظل واحدًا: البقاء القوي والسيادة المستقلة.

الإصلاح… من شعار إلى قدر محتوم
الإصلاح لم يعد ملفًا ثانويًا في رفّ الحكومة، ولا بندًا مؤجلًا لحين تحسُّن الظروف، بل أصبح قدرًا لا مهرب منه. فالدولة التي تؤجل الإصلاح أو تحاول ترقيع ثقوبها بقرارات مؤقتة، إنما تزرع ألغامًا تحت أقدامها لتنفجر لاحقًا.

لقد خبرت مصر ما تعنيه الإصلاحات المؤلمة: إعادة هيكلة الدعم، تحرير سعر الصرف، مشروعات البنية التحتية العملاقة، إعادة ترتيب الأولويات في الموازنة العامة… وكلها خطوات جريئة حملت في طياتها أعباءً على المواطن، لكنها في الوقت نفسه كانت جدار الصد أمام الانهيار الاقتصادي الذي ضرب دولًا عديدة في الإقليم.

لكن الإصلاح الحقيقي ليس مجرد أرقام ونسب نمو تُعرض في المؤتمرات، بل هو شعور المواطن أن حياته اليومية تتحسن، أن دخله يكفي، أن خدماته التعليمية والصحية ترتقي، وأن الدولة تقف إلى جانبه لا فوقه. الإصلاح الناجح هو الذي يُشعر الفلاح أن أرضه آمنة، والعامل أن مصنعه مستقر، والطالب أن تعليمه يفتح أمامه أبواب المستقبل، لا أن يزجّه في طوابير البطالة.

التحديات… وجوه متعددة لحصار واحد
إذا كان الإصلاح قدرًا، فإن التحديات واقع مفروض لا فكاك منه. والتحديات التي تواجهها مصر اليوم ليست عابرة ولا سطحية، بل هي معقدة ومركبة ومتداخلة.

داخليًا، هناك ضغوط اقتصادية شديدة:

تضخم يلتهم القوة الشرائية للمواطن.

ارتفاع أسعار السلع والخدمات.

عبء الدين المحلي والخارجي.

تزايد احتياجات البنية التحتية والصيانة المستمرة للمشروعات.

تآكل تدريجي للطبقة الوسطى، ما يهدد التوازن الاجتماعي.

خارجيًا، تتعدد الملفات الشائكة:

ملف سد النهضة وما يحمله من تهديد للأمن المائي.

النزاعات المشتعلة في دول الجوار (ليبيا، السودان، غزة) وتأثيرها المباشر على الأمن القومي.

التنافس الدولي على ممرات البحر الأحمر وشرق المتوسط، ما يفرض على القاهرة أن توازن بين القوى الكبرى دون أن تفقد استقلال قرارها.

الضغوط الاقتصادية العالمية من أزمات الطاقة إلى سلاسل الإمداد.

هذه التحديات ليست منفصلة عن بعضها، بل هي كعقدة الخيوط المتشابكة؛ إذا شددت طرفًا، تحركت بقية الخيوط.

إعادة صياغة الأولويات الوطنية… أكثر من مجرد ترتيب ملفات

إعادة صياغة الأولويات ليست عملية بيروقراطية تعيد ترتيب البنود من رقم 1 إلى 10، بل هي إعادة تعريف لمفهوم الأمن القومي نفسه. فالمفهوم القديم الذي كان يختزل الأمن القومي في حماية الحدود لم يعد كافيًا.

اليوم، الأمن القومي المصري يعني:
الأمن المائي: ضمان حصة عادلة ودائمة من مياه النيل، وتأمين مصادر بديلة وتحلية المياه.

الأمن الغذائي: استصلاح الأراضي وزيادة الإنتاج الزراعي لتقليل الاعتماد على الاستيراد.

أمن الطاقة: استغلال موارد الغاز في شرق المتوسط والطاقة الشمسية والرياح.

الأمن الرقمي: حماية البنية التكنولوجية من الهجمات السيبرانية.

الأمن الاجتماعي: الحفاظ على وحدة النسيج الوطني ومواجهة الفتن الطائفية والفكر المتطرف.

الأولوية هنا لا تعني إهمال بقية الملفات، بل تعني وضع المواطن في مركز الرؤية، بحيث تكون كل خطوة إصلاحية انعكاسًا مباشرًا على حياته.

المعادلة الصعبة… كيف يتحقق التوازن؟
التوازن بين الإصلاح والتحديات أشبه بالسير على حبل مشدود فوق وادٍ سحيق: ميلان قليل نحو أحد الجانبين قد يعني الانزلاق. فإذا تغوّل الإصلاح الاقتصادي دون حماية اجتماعية، وقع المواطن البسيط تحت وطأة الغلاء. وإذا خضع القرار الوطني لضغوط الخارج، ضاعت السيادة واهتزت ثقة الشعب.

المعادلة الناجحة تحتاج إلى:
1. إرادة سياسية قوية لا تتراجع أمام الضغوط.

2. حوار وطني شامل يشارك فيه الخبراء والمجتمع المدني.

3. إعلام مسؤول يشرح الحقائق بدلًا من تجميلها أو إنكارها.

4. رقابة حقيقية على تنفيذ المشروعات والسياسات.

دروس من التاريخ… مصر لا تنكسر
التاريخ المصري شاهد على أن هذه البلاد تجيد الوقوف من جديد بعد كل عثرة. من الحروب الصليبية إلى العدوان الثلاثي، ومن هزيمة 1967 إلى عبور 1973، كانت مصر دائمًا قادرة على تحويل المحنة إلى منحة. السر لم يكن في غياب الأزمات، بل في وجود قيادة تعرف متى تصمد ومتى تناور، وشعب يعرف متى يصبر ومتى يتحرك.

اليوم، ومع إعادة صياغة الأولويات الوطنية، تعود مصر إلى هذه المدرسة القديمة من الواقعية السياسية، حيث المصلحة الوطنية خط أحمر، وحيث الإصلاح ليس مطلبًا اقتصاديًا فقط، بل مشروعًا وطنيًا للبقاء والتفوق.

المستقبل يُصنع الآن
إن إعادة صياغة الأولويات الوطنية ليست مهمة وزارة أو مؤسسة، بل هي مهمة وطن بأسره. الإصلاح لا يُفرض من أعلى فقط، بل يُبنى من القاعدة، من وعي المواطن الذي يدرك أن كل جهد يُبذل اليوم إنما هو استثمار في غدٍ أكثر أمنًا واستقرارًا.

مصر الآن في امتحان جديد من امتحانات التاريخ. النجاح فيه لن يُقاس فقط بالأرقام، بل بالقدرة على حماية كرامة المواطن، وصون سيادة القرار، وتحويل الأزمات إلى فرص. وفي هذه البلاد، حيث يختلط نيلها بدماء شهدائها، وحيث صخورها تحمل ذاكرة آلاف السنين، يبقى الإيمان راسخًا بأن مصر ستكتب فصلًا جديدًا من فصول البقاء، فصلًا يليق بها كـ أمّ الأمم وقلعة الشرق ودرع العرب.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
7 + 4 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.