رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 2 نوفمبر 2025 1:13 ص توقيت القاهرة

حين ارتدى المصريون مجدهم... عودة الملوك على أجنحة الفخر

بقلم د/سماح عزازي 

حين يكتب التاريخ نفسه من جديد، لا يحتاج إلى قلمٍ ولا ورق، بل إلى قلوبٍ تعرف كيف تنبض بحبّ الوطن.
وحين تُشرق مصر، لا تفعل ذلك بالشمس فقط، بل بوجوه أبنائها الذين يحملون في عيونهم نور الأجداد وفي خطواتهم عزيمة الخلود.
في الأيام التي سبقت افتتاح المتحف المصري الكبير، بدا المشهد كما لو أن الأرواح القديمة قد عادت لتسكن بيننا، تتنفس معنا، وتبتسم في وجوهنا من بين أنفاس النيل وحجارة الأهرام.
المصريون – كل المصريين – خرجوا عن صمتهم الجميل ليعبّروا عن انتمائهم بطريقتهم الخاصة، فلم يرفعوا شعاراتٍ ولا حملوا أعلامًا، بل اكتفوا أن يرتدوا أزياء أجدادهم ليُخبروا العالم من جديد من نحن، ومن أين جئنا، وإلى أي مجدٍ ننتمي.

كان المشهد أشبه بملحمةٍ وطنيةٍ لم تُكتب بالكلمات، بل نُسجت بخيوطٍ من فخرٍ وإيمانٍ ودموعٍ لامعة على وجناتٍ تذكّرت مجدها الغابر.
إنها عودة الملوك على أجنحة الشعب، وقيامة الهوية المصرية من بين رماد الانشغال اليومي، لتقول للعالم إن مصر لا تُشيخ، وإن أبناءها مهما ابتعدوا عن جدران المعابد القديمة، ما زالوا يحملون على جباههم ملامح الفراعنة ونور الحضارة الأولى

في لحظةٍ لا تشبه سواها من لحظات الوطن، عاد المصريون إلى ذواتهم الأولى... إلى الجذور الضاربة في عمق الزمن، حين كان الحجر ينطق بالحياة، وكانت الأهرامات تُشيّد لتُخلّد الإنسان لا لتُقبره. تزامن افتتاح المتحف المصري الكبير مع مشهد لم تصنعه الحكومة ولا العدسات، بل صنعته القلوب حين اشتاقت إلى أصلها، والوجدان حين قرّر أن يقول للعالم: “هنا مصر... وهؤلاء أبناؤها.”

لم يكن الزي الفرعوني الذي ارتداه المصريون مجرّد أقمشة ملوّنة أو أزياء تنكرية، بل كان بيانًا وطنيًا بصيغة التاريخ، وصرخة فخر انطلقت من أعماق الروح قبل أن تخرج إلى الكاميرات. رأينا النساء كملكات طيباتٍ تتهادى أنوثتهنّ كما لو خرجن لتوّهن من معابد الأقصر، ورأينا الشباب كأنهم أحفاد الملوك المحاربين، يرفعون رؤوسهم شامخة كما رفعها رمسيس في وجه الزمن، ورأينا الأطفال يبتسمون ببراءة كأنهم يصافحون أجدادهم من فوق صفحة الحاضر.

كان المشهد أكثر من احتفالية... كان بعثًا جديدًا للروح المصرية التي طالما تماوجت بين صبر النيل ودهشة الخلود.
لم ينتظر المصريون من يلقّنهم معنى الانتماء، فهم يعرفونه بالفطرة، يزرعونه في أغانيهم، ويورثونه في دعائهم كل صباح، ويكتبونه على جدران قلوبهم بحروف لا تُمحى.

في ذلك اليوم، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة وطنية كبرى، الكل يشارك، الكل يصوّر، الكل يكتب بحروف الفخر: “أنا مصري... أنا من سلالة الحضارة التي علّمت الدنيا معنى النور.”
كانت الصور أكثر من وجوه جميلة؛ كانت مرايا تعكس وجدان أمةٍ بأكملها، تقول إن الهوية ليست شعارًا نعلّقه في المناسبات، بل دمٌ يجري في العروق منذ آلاف السنين.

كم هو مدهش هذا الشعب!
يُدهشك حين تظن أنه انشغل بلقمة العيش، فيفاجئك بأنه يُعيد وصل روحه بالخلود.
يُبهرك حين تراه يواجه الصعاب، فإذا به يبتسم في وجهها مرتديًا تاج نفرتيتي أو صولجان تحتمس الثالث، وكأنه يقول للعالم: “لسنا فقط أحفاد الملوك... نحن امتداد مجدٍ لم يمت.”

لم تكن القاهرة وحدها التي احتفلت، بل كل بيتٍ في مصر صار معبدًا صغيرًا للانتماء، وكل مصري بات مؤرخًا لحضارته بلمسةٍ من فخرٍ صادق.
ولم يكن الحدث عابرًا، بل علامة فارقة في الوعي الجمعي المصري؛ لحظة تماهى فيها الماضي مع الحاضر، وتوحّد فيها الشعب حول فكرته الكبرى: أن مصر باقية، وأنها ليست أرضًا فحسب، بل رسالةٌ أبدية تُتلى على جبين الشمس كل فجر.

لقد قدّم المصريون للعالم درسًا جديدًا في الوطنية...
لم يرفعوا السلاح، ولم يهتفوا في الميادين، بل اكتفوا بابتسامةٍ مهيبة ووقفةٍ شامخة في زيّ أجدادهم، ليقولوا: “هكذا نُحب بلادنا، وهكذا نحميها... بالجمال، بالوعي، وبالإيمان العميق بأننا ننتمي إلى أول حضارةٍ علّمت الإنسانية معنى الإنسان.”

يا لروعة المشهد حين تتشابك الأجيال في لحظةٍ واحدة من النور!
الجدّ العجوز يتذكّر بحنين، والابن يبتسم بفخر، والحفيد يسأل: “هل كنتَ هناك يا جدي حين بنوا الأهرام؟” فيجيبه الجدّ بثقة: “نعم يا بني... كنا هناك، وما زلنا.”

في تلك الصور التي غمرت الفضاء الإلكتروني، لم يكن المصريون يقلّدون الماضي، بل كانوا يستعيدون جوهره؛ كانوا يُعيدون صياغة التاريخ بحبٍ لا يُشبه سواه، ويُعلنون أن الحضارة ليست رفاتًا في المتاحف، بل روحًا تسكن في الشعب، لا تموت ولا تكلّ.

وهكذا، حين فتح المتحف المصري الكبير أبوابه، لم تفتح مصر متحفًا للحجارة فحسب، بل فتحت قلبها للعالم، وقالت من جديد: “أنا مصر... أمّ الحضارة، ومجد الإنسان الأول، والحنين الذي لا يشيخ.”

الهوية التي لا تموت
كم أشعرُ بالفخر وأنا أرى أبناء وطني يتوشّحون بأزياء أجدادهم، لا كزينةٍ عابرة، بل كعهدٍ أبديٍّ بأننا لن نُفرّط في هويتنا ما دامت الشمس تُشرق من الشرق.
ذلك الزي الذي ارتدوه لم يكن مجرد قطعة قماشٍ تُحاكي الماضي، بل كان راية انتماءٍ تُرفرف على صدور المصريين جميعًا؛ رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا.
رأيتُ في عيونهم وهج الحضارة الأولى، وفي ابتساماتهم يقينًا بأن دماء الملوك ما زالت تجري في عروق هذا الشعب العظيم، وأن الهوية المصرية ليست ذكرى تُروى، بل حياةٌ تُعاش.

في تلك اللحظة، أدركتُ أن التاريخ لم يكن زمنًا مضى، بل روحًا خالدة تتنقّل بين الأجيال، تُذكّرهم بمن كانوا، وتُلهمهم بمن سيكونون.
فأيُّ فخرٍ أعظم من أن يُعيد شعبٌ بأكمله كتابة حضارته بملامحه، وصوته، وإيمانه العميق بأنه من نسل الخلود ذاته؟

حين يلتقي الماضي بالحاضر
كم اهتزّ في صدري نبضٌ لم أعرفه من قبل، وأنا أتابع صور المصريين وهم يستحضرون ملوكهم وكهنتهم ومجدهم القديم، في مشهدٍ جعلني أوقن أن الانتماء لا يُعلَّم، بل يُستيقظ في القلب حين يُنادى باسم الوطن.
لقد رأيتُ فيهم مزيجًا عجيبًا من القوة والعذوبة، من الكبرياء والتواضع، من الحنين والفخر... كأن الماضي والحاضر التقيا في لحظةٍ واحدةٍ على أرضٍ واحدة، ليقولا للعالم: “ما زلنا هنا، وما زال مجدنا يسطع.”

رأيتُ في كل ابتسامةٍ فجرًا جديدًا لمصر، وفي كل نظرةٍ وعدًا صادقًا بأن هذا الشعب لن يترك ماضيه خلفه، بل سيحمله معه نحو المستقبل بثوبٍ من العزة والجمال.
أنا فخورةٌ ببلادي... فخورةٌ بكل امرأةٍ ارتدت تاج نفرتيتي، وبكل شابٍ رفع رأسه كأحفاد رمسيس، وبكل طفلٍ رسم ببراءته خريطة حضارةٍ لا تموت.

وفي نهاية هذا المشهد البهيّ، لا أملك إلا أن أنحني احترامًا لهذا الشعب الذي يثبت في كل مرة أن المصري لا ينسى نفسه، ولا يتخلى عن جذوره مهما تغيّرت الأزمنة.
إنها ليست لحظة عابرة من الفخر، بل عودة وعيٍ جماعيٍّ إلى الحقيقة الكبرى: أن الهوية المصرية أقدم من الزمن، وأعمق من التاريخ، وأبهى من كل ما يُروى في كتب الحضارات.

لقد رأيتُ في عيون أبناء وطني ما هو أبلغ من كل الكلمات، رأيتُ مصر وهي تنظر إلى نفسها في مرآة الماضي، فترى وجهها الجميل ما زال كما كان، قويًا، مضيئًا، خالدًا.
ورأيتُ في هذه الملحمة الشعبية العفوية رسالةً سامية مفادها أن المصري حين يحب بلاده لا يحتاج إلى دعوة، ولا إلى حافز، فحبه فطرة، وارتباطه بها قدرٌ مكتوب منذ الأزل.

سلامٌ على كل من رفع رأسه اليوم بفخر، وسلامٌ على كل قلبٍ خفق باسم مصر حين ارتدى زيّ أجداده.
سلامٌ على الوطن الذي تُعيده ابتسامةُ شعبه إلى مجده كل مرةٍ من جديد.
وستبقى مصر — بكل ما فيها من نورٍ ونيلٍ وأصالةٍ وخلود — قصيدةَ التاريخ التي لا تُختَم، وأعظم معزوفةٍ كتبها الإنسان في سفر الوجود.

فليعلم العالم أجمع أن المصريين لا يحتاجون إلى شعاراتٍ ليعبّروا عن حبهم، يكفيهم أن يبتسموا بزيّ أجدادهم ليملأوا الأرض نورًا وحياةً.
سلامٌ على مصر... حين كانت، وحين هي الآن، وحين ستبقى دومًا عروسَ التاريخ ومهجةَ الزمان. 

سلامٌ على مصر... حين كانت، وحين هي الآن، وحين ستكون دومًا عروسَ التاريخ ومهجةَ الزمان

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 6 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.