رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الجمعة 21 نوفمبر 2025 1:50 م توقيت القاهرة

حين يفيض الصمت وطنا حديث الأرواح التي تنتمي قبل أن تنطق

بقلم/نشأت البسيوني 

ليس كل انتماء يقال وليس كل حب يحتاج إلى كلمات هناك أوطان لا نعرف أننا نعشقها إلا حين نبتعد خطوة واحدة عنها فتضج الروح بصوت لم نسمعه من قبل هناك أوطان لا ترفع صوتها ولا تطلب الولاء بل تجلس في أعماقنا في هدوء يشبه جلسة أم تراقب أبناءها وهم يكبرون دون أن تتدخل لكنها موجودة تتابع تحفظ وتحب الوطن لا يعرف نفسه ولا يقف ليقول أنا هنا الوطن ينكشف في 

التفاصيل في سكون الليل في رائحة المطر في ضوء الشارع الذي يذكرنا بوقت العودة في ضحكات العائلة حين تجتمع وفي الوجوه التي نراها يوميا حتى ننسى أن وجودها نعمة إنه يشبه ظلا لا نراه لكنه يمشي معنا يراقب خطواتنا ويحمينا بصمت الوطن الذي نخجل من الاعتراف بحبه عجيب هو الإنسان قد يعترف بحبه لأي شيء لشخص لعمل لهواية لمدينة عاش فيها عاما لكن حين يأتي 

الحديث عن الوطن يشعر وكأن الاعتراف به يحتاج إلى لحظة معينة وصوت داخلي حقيقي ربما لأن حب الوطن أعمق من أن يوضع في جملة وربما لأننا نخشاه نخشى أن نبدو ضعفاء أمام شيء لا نملك تفسيره نحن لا نقول أحب وطني كثيرا لكننا نعيشها كل يوم بطريقة ما نقولها حين ندافع وحين نغضب وحين نخاف وحين نتمنى وحين نعمل وحين نركض وراء أحلامنا كي لا نخجل 

أمام أرض أعطتنا أكثر مما أدركنا حب الوطن ليس شعورا إنه خجل جميل يختبئ خلف مئات التفاصيل الوطن الذي يشبه أبا لا يرفع صوته الأب الحقيقي لا يحتاج إلى الصراخ كي نعمل ولا يحتاج إلى تهديد كي نخاف ولا إلى تذكير كي نحب الوطن يشبه هذا الأب يطلب منا بصمت يسامح بصمت يعطي بصمت ويتحمل كل ما نظنه حقا مكتسبا دون أن يعترض لا يلومنا حين نغادر ولا يعاتب حين 

نتذمر ولا يغلق بابه إذا عدنا منهكين الوطن مثل الأب قد لا ندرك قيمته إلا حين نصبح نحن في موضعه وأحيانا ندرك قيمته بعد فوات الكثير متى يبدأ الوطن لا يبدأ حين نولد على أرضه ولا حين نسجل اسمنا في هويته ولا حين نردد نشيده في المدرسة الوطن يبدأ حين نشتاق لأول مرة دون سبب حين نشعر بأن صوت المؤذن في حارتنا القديمة مختلف عن أي مكان آخر حين نفتقد لهجة 

معينة ورائحة الخبز وصوت البائع وغبار الشوارع ومشهد الشمس حين تغرب فوق الأسطح الوطن يبدأ حين تفتقد التفاصيل حين تفقد الضوضاء حتى تتمنى أن تعود حين تشتاق لشيء لم تكن تلاحظه أصلا الوطن لا يولد في اليوم الأول الوطن يولد في أول غياب الوطن حين يكون الطبيب والدواء والجرح هناك جراح لا تشفى إلا حين نرجع ليس إلى أشخاص بل إلى أماكن أحيانا يعود 

الإنسان إلى وطنه لا ليبحث عن فرصة ولا ليعود إلى عمل ولا ليستعيد ذكرياته يعود لأنه جريح يعود لأنه سئم الوقوف وحيدا يعود لأنه يريد أن يضع رأسه على صدر الأرض التي تعرفه دون شرح الوطن يرمم الروح كما يفعل الطبيب الرحيم ويترك في القلب علامة كما يترك الجرح أثره ويمنحنا قوة جديدة قوة لا تأتي من المنطق بل من الانتماء الغربة تكشف الوطن أكثر مما تكشف الأماكن 

ليس المسافر هو الذي يرى العالم بل العالم نفسه هو الذي يكشف للمسافر حقيقة وطنه في المدن الأخرى نكتشف أننا نشتاق فطريا لأشياء تافهة كنا نضحك عليها لضوضاء الشوارع للسيارات القديمة لرائحة الطعام الشعبي للغبار الذي كنا نلعنه ولحوار الجيران الذي كنا نهرب منه الغربة تجعل الأشياء الصغيرة عظيمة وتجعل الوطن كبيرا بحجم السماء التي نراها من بعيد ولا نستطيع لمسها وكل 

مسافر يحمل خريطة خفية مكانها القلب تدله دائما على طريق العودة وتقول له من بعيد حين تتعب أنا هنا الوطن الذي نختلف معه ولا نختلف عليه قد نختلف على أمور كثيرة سياسة اقتصاد طرق قرارات لكننا لا نختلف على الوطن نفسه نحن لا نحب أوطاننا لأنها مثالية ولا لأنها بلا أخطاء ولا لأنها أجمل الأماكن على الأرض نحبها لأنها نحن لأنها أصلنا وجذورنا وتكويننا الذي لا يمكن مسحه 

الوطن ليس مكانا بلا أخطاء ولا نحن أبناء بلا خطايا لكن الرابط بيننا وبين الأرض مهما اهتز لا ينقطع هناك أوطان تنهض بأبناءها وهناك أبناء ينهضون بأوطانهم وفي النهاية كلاهما يلتقيان على نفس الطريق ما الذي يجعل الوطن وطنا ليس العلم ولا النشيد ولا حدود الخرائط بل البشر الناس هم الوطن وجوههم قصصهم ابتساماتهم تعبهم وصدقهم الناس الذين نراهم في الأسواق في 

المصالح الحكومية في المواصلات في الشوارع على الأرصفة كل واحد منهم يحكي جزءا من سيرة الوطن الوطن ليس برجا ولا شارعا مشهورا الوطن هو أم تدعو وأب ينتظر وشاب يحلم رغم الظروف وطفل يجري في الأزقة دون أن يعرف أنه يحمل مستقبلا كاملا في ركضته الوطن ليس كلمة الوطن معجزة يومية نبحث طوال حياتنا عن الحب الحقيقي وننسى أن أول حب عرفناه كان 

وطنا نبحث عن الأمان وننسى أن أول أمان عرفناه كان حضن أرض نبحث عن الانتماء وننسى أن أول انتماء عرفناه كان لحي ولشارع ولمدرسة ولهوية الوطن لا يشيخ الوطن لا يتغير الوطن لا يغادر الوطن لا يخون وإن ابتعدنا وضعفنا وتغيرنا يظل هو الثابت في قلوبنا الحقيقة التي لا تمس والقيمة التي لا تموت لذلك سيظل الوطن دائما البيت الأول والملاذ الأخير والنبض الذي لا يتوقف

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 17 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.