رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 28 يونيو 2025 8:10 م توقيت القاهرة

دراسة نقدية موسعة لكتاب "فن اللامبالاة" لمارك مانسون

بقلم د/سماح عزازي
في عالم يغرق في ثقافة السعادة السطحية، وتُسوَّق فيه الأحلام على هيئة وصفات سحرية، وتُباع فيه الأوهام تحت مسميات "قانون الجذب" و"التفكير الإيجابي"، يقف الإنسان المعاصر متخبطًا بين مطرقة الفشل وسندان التوقعات غير الواقعية. هنا، تتسلل إليه مشاعر الإحباط واليأس، حين يكتشف أن ما وُعد به من شعارات وردية لا ينسجم مع قسوة الواقع.
في هذا السياق، يطل علينا كتاب فن اللامبالاة لمارك مانسون، لا بوصفه دليلًا للتحفيز الزائف، بل كصفعة فكرية توقظ الإنسان من سباته النفسي، وتدفعه لإعادة النظر في معنى النجاح، وفي جدوى المعاناة، وفي طبيعة ما يستحق أن يمنحه اهتمامه ومشاعره وطاقته. الكتاب لا يعد قارئه بحياة خالية من الألم، بل يدعوه إلى التصالح مع الألم ذاته، وفهمه كأداة للنمو والنضج، لا كعدو يجب التخلص منه.
إنها فلسفة جديدة في زمن مشوّه، فلسفة تعيد الإنسان إلى ذاته، تجرده من زيف التصورات، وتمنحه شجاعة الاعتراف بأن السعادة ليست الهدف، بل أن اختيار الألم الصحيح هو جوهر الحياة. أمام هذا الطرح الجريء، تصبح الحاجة ملحّة إلى قراءة نقدية متعمقة لهذا العمل، الذي تجاوز حدود التنمية الذاتية التقليدية، ليطرح إشكالات وجودية ترتبط بجوهر التجربة الإنسانية.
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتضطرب فيه المفاهيم النفسية والاجتماعية، أصبح الإنسان المعاصر فريسة سهلة للقلق، والسعي الدائم خلف المثالية الزائفة، والانغماس في دوامة السعي نحو السعادة المطلقة. في خضم هذا الواقع، يأتي كتاب "فن اللامبالاة: لعيش حياة تخالف المألوف" للكاتب الأمريكي مارك مانسون ليطرح بديلاً جذريًا لما درجت عليه أدبيات التنمية البشرية، مقدمًا ما يمكن وصفه بـ"الفلسفة الواقعية للرضا الذاتي".
يرفض مانسون التصورات السطحية عن السعادة، ويُسائل بجرأة المنظومة التي تبيع الأمل الوهمي وتعدُ الإنسان بأنه يستطيع كل شيء فقط إذا "فكّر بطريقة إيجابية". وعلى عكس هذا الخطاب السائد، يدعو مانسون إلى تبني مفاهيم أكثر نضجًا، تقوم على تقبل الفشل، والاعتراف بالمحدودية، والتخلي عن الهوس بالنجاح أو المثالية.
أولاً: الخلفية الفلسفية والفكرية للكتاب
ينتمي مارك مانسون إلى تيار فكري يتقاطع مع عدد من المدارس الفلسفية الغربية، لا سيما الفلسفة الرواقية (Stoicism) والوجودية (Existentialism). يدعو، مثل الرواقيين، إلى تحمّل المسؤولية الشخصية، والهدوء في مواجهة الأحداث، والتركيز على ما يمكن للمرء التحكم فيه. كما يشارك الوجوديين اعترافهم بعبثية بعض جوانب الحياة، وأهمية خلق معنى ذاتي للتجربة الإنسانية.
يعيد مانسون طرح سؤال جوهري: ما الذي يستحق أن نهتم به في هذا العالم؟ ويجيب: ليس كل شيء. فالسعادة لا تأتي من امتلاك كل ما نريده، بل من اختيار المعاناة التي تستحق أن نعيشها. وهذه الفكرة تنسف الأساس النفسي الذي تقوم عليه فلسفة "كن إيجابيًا دائمًا"، معتبرًا أن الألم والمعاناة ليسا أعداء، بل أداتان للنمو والتحوّل.
ثانيًا: تحليل الأسلوب والمحتوى
1. الأسلوب:
يتسم أسلوب مانسون بالبساطة، المباشرة، والجرأة. يتحدث إلى القارئ وكأنه يخاطبه وجهًا لوجه، ويكثر من استخدام الأمثلة الشخصية والحكايات الواقعية. يتجنب الأسلوب الإنشائي أو الموعظي، معتمدًا على التهكم والسخرية أحيانًا، لا سيما عند نقد الثقافة الغربية المعاصرة.
ومن السمات اللافتة في أسلوبه استخدامه المتكرر للكلمات البذيئة، وهو ما أثار جدلاً كبيرًا بين القراء. فبينما يرى البعض أن ذلك يمنح الكتاب صدقًا وواقعية، يرى آخرون أن هذه اللغة تنال من القيمة الأدبية والفكرية للنص.
2. بنية المحتوى:
يتألف الكتاب من تسعة فصول، كل فصل منها يتناول جانبًا من مفاهيمه حول الحياة والنجاح والقيم. لا يقدم مانسون نظريات علمية بالمعنى الدقيق، لكنه يستند إلى عدد من الأبحاث النفسية والاجتماعية، ويُسند تحليلاته إلى تجارب ذاتية أو سير ذاتية لأشخاص مرّوا بتحولات حياتية كبرى.
بعض العناوين اللافتة في الفصول:
لا تحاول (Don't Try): دعوة لعدم الجري وراء ما لا يستحق.
السعادة مشكلة (Happiness is a Problem): نظرة مغايرة لمفهوم السعادة.
أنت لست مميزًا (You are Not Special): نقد لثقافة التميز الفارغ.
الفشل طريق التقدم: رؤية ناضجة للخطأ والتجربة.
ثالثًا: التحليل النفسي والاجتماعي
1. البعد النفسي:
يقدّم مانسون أطروحة نفسية تتعارض مع كثير من المفاهيم المنتشرة في كتب تطوير الذات. فهو يؤمن أن:
القبول الذاتي لا يعني تبرير الأخطاء، بل الاعتراف بها والتصالح معها.
الفشل ليس نهاية، بل أداة لإعادة التقييم.
التحكم في المشاعر لا يكون بإنكارها، بل بفهمها وتوجيهها.
تتوافق هذه الرؤية مع نظريات علم النفس الإيجابي المعاصر، لكنها تختلف عنها في التشديد على الحد من التوقعات بدل تضخيمها، واحتضان الألم بدل الفرار منه.
2. البعد الاجتماعي:
ينتقد الكتاب المجتمع الاستهلاكي الحديث، لا سيما في أمريكا، حيث يُقاس النجاح بعدد المتابعين، أو الأموال، أو الإنجازات السطحية. ويُبرز كيف أن وسائل التواصل الاجتماعي ضاعفت من وهم المقارنة، مما أدى إلى انتشار القلق والاكتئاب، خاصة بين فئة الشباب.
في هذا السياق، يُظهر مانسون أن السعي لأن تكون "شخصًا ناجحًا على الدوام" هو في ذاته عبء نفسي واجتماعي كبير، وأن الوعي بهذا العبء هو الخطوة الأولى نحو التحرر.
رابعًا: المآخذ والانتقادات
1. اللغة الصادمة:
الانتقاد الأبرز الموجه للكتاب هو اعتماده على كلمات نابية أو غير مألوفة في الكتابات الأدبية أو النفسية. البعض اعتبر ذلك متعمدًا لجذب جمهور الشباب، بينما رأى آخرون أنه يخلّ بالرصانة الفكرية للنص.
2. التكرار وتبسيط المفاهيم:
رغم عمق بعض أفكار الكتاب، إلا أنه في مواضع كثيرة يعيد صياغة المفاهيم نفسها بطرق مختلفة دون أن يضيف شيئًا جديدًا. كما أن اختزاله لبعض الإشكالات الوجودية أو النفسية في عبارات عامة قد يُنظر إليه كمبالغة في التبسيط.
3. غياب الحلول الممنهجة:
لا يقدم مانسون برنامجًا عمليًا أو تدريبات نفسية، كما تفعل بعض كتب التنمية الذاتية الأخرى، بل يترك القارئ أمام أسئلة مفتوحة ونصوص فلسفية، وهو ما قد لا يناسب كل فئات القراء.
خامسًا: القيمة المعرفية والتأثير الثقافي
على الرغم من الانتقادات، إلا أن "فن اللامبالاة" يُعدّ من أكثر الكتب تأثيرًا في مجال التنمية الذاتية خلال العقد الأخير، وقد تُرجم إلى أكثر من 30 لغة، وبيع منه ملايين النسخ حول العالم.
تكمن قيمته في أنه يفتح الباب لنقاش جديد حول مفاهيم النجاح والسعادة والمعاناة، ويحرّض القارئ على التفكير النقدي تجاه ما يتلقاه من رسائل ثقافية يومية. وهو بذلك، يُشكل صدمة فكرية قد تكون البداية لتحوّل داخلي أعمق.
"فن اللامبالاة" ليس كتابًا لتحفيز القارئ على بلوغ القمة، بل دعوة ليتأمل القاع، ليفهم ذاته كما هي، لا كما يُراد له أن يكون. إنه كتاب يحررنا من عبودية التوقعات، ويعيد تعريف القيمة والمعنى، لا كأشياء خارجية نلهث وراءها، بل كقرارات داخلية نصوغ بها رؤيتنا للعالم.
ربما لا يُقدّم مانسون حلولًا نهائية، لكنه يمنحنا مفتاحًا للبدء: توقف عن إعطاء كل شيء كل اهتمامك، واختر بعناية ما يستحق أن تقلق لأجله.
ختامًا، يمكن القول إن فن اللامبالاة ليس مجرد كتاب في التنمية الذاتية، بل هو إعلان تمرد على ثقافة زائفة أرغمت الإنسان على السعي وراء المثالية المستحيلة، وأثقلته بأوهام السعادة الدائمة والنجاح المطلق. إنه خطاب تحرري، يدعو القارئ إلى الانفصال عن الهوس المجتمعي بالإنجازات الشكلية، والتصالح مع محدودية الحياة، والاعتراف بأن الألم والفشل ليسا استثناءات، بل جزء لا يتجزأ من معادلة الوجود.
مارك مانسون لم يقدّم وصفة سحرية، بل كشف الستار عن وهم الوصفات. لم يعدنا بحياة وردية، لكنه منحنا أداة لفهم العالم كما هو، لا كما نتمناه. في زمن يختلط فيه الضجيج بالفراغ، يعلّمنا هذا الكتاب أن اللامبالاة ليست بلادة، بل فن راقٍ لا يتقنه إلا من أدرك أن الحرية تبدأ حين نختار ما يستحق اهتمامنا، ونترك ما لا قيمة له يمر دون أن ينهك أرواحنا.
ربما لا يحمل هذا الكتاب أجوبة نهائية، لكنه يطرح السؤال الأهم الذي يغفل عنه كثيرون: ما الذي يستحق فعلًا أن نهتم به في هذه الحياة؟ وأي معركة تستحق أن نخوضها؟ هكذا، تتحول اللامبالاة الواعية من حالة سلبية إلى قوة إيجابية تعيدنا إلى ذواتنا، أكثر اتزانًا، وأكثر وعيًا، وأكثر شجاعة.
المصادر و المراجع:
Mark Manson, The Subtle Art of Not Giving a Fck*, HarperOne, 2016.
مقتطفات من مقابلات مارك مانسون ومنشوراته على موقعه الشخصي.
مقالات نقدية في مواقع مثل The Guardian، New York Times، Psychology Today.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 5 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.