رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 5 يوليو 2025 9:44 م توقيت القاهرة

صوت المرأة بين الأدب والسرد الشفاهي (دراسة في الأدب المقارن)

بقلم د/سماح عزازي
في زوايا الحكايات القديمة، كانت المرأة تروي…
لكنها لم تكن دومًا تُروى
"لم يكن صوت المرأة يومًا مجرد نغمة في خلفية السرد،
بل هو قلب الحكاية، وإن نُزع منه البوح."
كانت تغزل الحكاية في صمت، تُرويها ليلًا لأطفال القرية، تُودعها في أناشيد الحزن والمواويل، بينما تبقى خارج النص المكتوب، كظلّ لغوي بلا توقيع
"في البدء لم يكن للمرأة اسمٌ في السرد، بل كانت هي الحكاية التي تروي ولا تُروى، تُسمع ولا تُسجّل، تُنسج في ليل المواويل ثم تُمحى عند الصباح."
في زوايا البيوت الطينية، على أطراف المواقد، وفي همسات الجدّات، وُلد السرد الشفاهي النسائي.
كانت المرأة تحفظ التاريخ في صدرها، تُخبّئ الحكمة في النكتة، وتُخفي الصرخة في الزغرودة.
وفي غفلة من الزمن، سرق الرجل القلم، فدوّن الحكاية… لكنه محا الصوت.
هكذا انتقلنا من سرد أنثوي شفيف يتلوّن بالعاطفة والتجربة، إلى نصوص أدبية رسمية تُعيد إنتاج المرأة كرمز، كعاشقة، كملاك منزلي، أو كمتمرّدة ينبغي قمعها.
في هذا المقال، نقف بين زمنين ولسانين:
لسان الحكاية الشفاهية الذي كانت فيه المرأة صاحبة الصوت.
ولسان الأدب المكتوب الذي كانت فيه موضوعًا للكتابة.
إنه رصد لرحلة الصوت من الشفاه إلى الصفحات، من الظل إلى الضوء، من الحكاية الشعبية إلى الرواية الحديثة، ومن "شهرزاد" إلى الكاتبة العربية المعاصرة.
فهل كان صوت المرأة فعلاً حاضرًا في الأدب؟
أم أن الأدب نفسه سطا على سردها الشفهي، فحوّله إلى ملكية ثقافية ذكورية؟
وهل السرد الشفاهي النسائي هو المقاومة الأولى ضد تغييب الصوت الأنثوي؟
هنا، في هذا المقال، نقارب الأدب المقارن من زاوية غير مألوفة: من المقارنة بين ما كُتب، وما قيل، بين المكتوب الذكوري، والمروي الأنثوي، بين النص المدوَّن، والذاكرة الحية.
السرد الشفاهي حين كانت المرأة تحكي العالم
قبل أن يُمسك الرجل القلم، كانت المرأة تمسك الخيط والغزل والحكاية.
من "ألف ليلة وليلة"، حيث شهرزاد تنقذ ذاتها بالحكاية، إلى الحكايات الشعبية في القرى العربية والمغاربية، حيث الجدات يروين حكايات الجنيات، والبطلات المظلومات، والحبيبات الصامدات.
هذا السرد الشفاهي، الذي غالبًا ما أُهمل بوصفه "تراثًا نسويًا هامشيًا"، هو في الحقيقة صوت المرأة الأصلي، الصادق، الخام، غير المراقب.
هو مسرحها الوحيد، حيث تُعبّر عن قلقها، حنينها، أحلامها، ورؤيتها للعالم.
وفي المجتمعات ما قبل الكتابة، لم تكن المرأة مجرد ناقلة للحكاية، بل منتِجة للمعنى، وصاحبة سلطة رمزية خفية، تحكم الليل بصوتها، كما يحكم الرجل النهار بسيفه.
الأدب المكتوب حين تُسرق الحكاية
مع هيمنة الكتابة، انتقل السرد من الفم إلى الورق، ومن "الجماعة" إلى "الكاتب"، وهنا بدأت عملية إقصاء ناعمة لصوت المرأة.
فالقصص الشعبية التي نسجتها الجدات، أعاد الرجل كتابتها من وجهة نظره، مفلترًا الرموز، مروّضًا الشخوص، وحاذفًا ما لا يليق "بأدب المرحلة".
هكذا تمّ "أدلجة" الحكايات، وتحويل السرد من فعل حيّ إلى نصٍ مؤدلج.
وغابت المرأة، أو حُوّلت إلى شخصية خرساء، أو حبيبة صامتة، أو ضحية لا تتكلم إلا في لحظة الفقد.
بل إن كثيرًا من الروايات الكلاسيكية، حتى وإن تناولت "قضايا المرأة"، فإنها غالبًا تفعل ذلك من خلال عين الرجل، ومن أجل قارئ رجل.
المرأة هنا مفعول به، رمز، دلالة، ولكنها نادرًا ما تكون "ذاتًا ناطقة".
أصوات نسائية تستعيد حق الحكي
في النصف الثاني من القرن العشرين، تغيّرت المعادلة.
بدأت الكاتبات العربيات يستعدن حق المرأة في "كتابة ذاتها"، وأصبح الأدب النسائي مجالًا لخلخلة المفاهيم، وكشف المستور.
من غادة السمان التي كتبت بشغف الجسد، إلى أحلام مستغانمي التي جعلت اللغة ساحة للحب والسياسة، إلى فدوى طوقان، نوال السعداوي، سحر خليفة وغيرهن…
بدأ صوت المرأة يخرج من الهامش إلى المتن.
بل إن كثيرًا من الكاتبات استلهمن من السرد الشفاهي النسائي في بناء أعمالهن، محولات الحكمة الشعبية، والتكرار الإنشادي، والبنية الشفوية إلى تقنيات سردية حداثية.
المقارنة من النص إلى الذاكرة
في الأدب المقارن، لا بد من مساءلة ما لم يُكتب بقدر ما نحلل المكتوب.
فالمقارنة لا تكتفي بمضاهاة نصوص بلغات مختلفة، بل تبحث في الفضاءات المسكوت عنها، في الذاكرة الجمعية، في ما تحفظه الجدات وتخفيه الكتب.
هنا تتجلّى جدلية عميقة:
السرد الشفاهي النسائي يمثل اللاوعي الثقافي الحقيقي، المليء بالخرافة والمجاز والمعاناة.
الأدب المكتوب – خاصة القديم – غالبًا ما يعيد إنتاج الصور النمطية عن المرأة تحت غطاء الجمال أو التضحية أو الحب.
المقارنة بينهما ليست لغوية أو تقنية، بل أنثروبولوجية، وفكرية، وجمالية.
إنها مقارنة بين "صوت" و"نص"، بين "حكاية تُروى في الليل"، و"قصة تُكتب في الصباح".
المرأة... من هامش الحكاية إلى قلب الرواية
لقد كانت المرأة دومًا تحكي، ولكن العالم لم يكن دائمًا يسمع.
كان صوتها يُهمس به في زوايا البيوت، في مجالس الغزل، في أناشيد النوم، لكنه لم يكن يُكتَب، أو كان يُكتب بغير ما أرادت.
واليوم، بعد أن صار لها قلم، ونص، ومنصة، أصبحت المرأة تكتب ما لم تستطع جدتها أن تقوله، وتُعلن ما كان سرًا شفاهيًا، وتحوّل المعاناة إلى سرد، والصمت إلى صياغة.
وفي زمن تنكمش فيه الأصوات، ويُعاد إنتاج الصور، يبقى من الضروري أن يُصغى إلى صوت المرأة لا فقط بوصفه "أدبًا نسائيًا"، بل بوصفه جزءًا من السرد الإنساني الكبير، حيث لا يمكن فهم العالم دون الإنصات لنصفه المسكوت عنه.
"وحده الصوت لا يُدفن. يختبئ في المواويل، يطفو في الحكايات، ويعود كلما نادت الحروف بأسمائه المنسيّة."
المرأة، التي طالما روت قصص الآخرين، بدأت أخيرًا تروي قصتها.
بعد قرون من التهميش، بدأت تُمسك بالقلم لا لتزيّن الحكاية، بل لتخلخلها، وتعيد كتابتها على طريقتها، بوجعها، بجسدها، بذاكرتها الجماعية.
وما بين الأدب الرسمي الذي صنع للمرأة قفصًا لغويًا مذهّبًا، والسرد الشفاهي الذي ترك لها حريّة الطيران بالكلمة، نكتشف الفارق:
ذاك جعلها صامتة أنيقة، وهذا منحها صوتًا حيًّا حتى وإن كان متقطّعًا.
صوت المرأة ليس مجرّد حكاية منقولة، بل تاريخ مقموع يعود في صورة سرد، ومسار من النفي والاستعادة، من الطمس والانبعاث.
هو صوت يكتب ذاته الآن، لكنه لا ينسى جدّته التي كانت تحكي في الظل، ولا ينكر أن السرد الشفاهي كان أولَ تمرّدٍ نسويٍ صامت في وجه العالم المكتوب بأيدي الرجال.
لقد آن أوان إعادة الاعتبار لصوت المرأة، لا بوصفه نشازًا أدبيًا، بل بوصفه مفتاحًا لفهم العمق الحقيقي للحكاية الإنسانية كلها.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
11 + 2 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.