رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 13 نوفمبر 2025 11:56 م توقيت القاهرة

غزة لم تنتحر.. إنها فقط أعلنت ميلادها الجديد

كتب ضاحى عمار 

من بين ركام البيوت، ومن تحت سماءٍ مثقلة بالنار، خرج السؤال الأكبر: ما الذي دار في ذهن يحيى السنوار وهو يعطي إشارته في صباح السابع من أكتوبر؟ أكان يدرك أن لحظته تلك ستقلب موازين الأرض أم كان يعلم أنه يفتح صفحة جديدة في سجلٍ لم يُكتب بعد

ما جرى في ذلك اليوم لم يكن انفجارًا عسكريًا فقط، بل لحظةً وجوديةً لجيلٍ وُلد محاصرًا. كان القرار امتدادًا لوعيٍ متراكم عاشته غزة طوال سبعة عشر عامًا من الانغلاق والعزلة، حين تحوّل الانتظار إلى عذاب، والصبر إلى شكل من أشكال الموت البطيء. لم يكن ما فعله السنوار اندفاعًا، بل ترجمةً عميقة لوجعٍ جمعي تراكم حتى بلغ حد الانفجار.
في علم الاجتماع، يتحدث إميل دوركايم عن حالةٍ تُدعى الانتحار الجمعي الواعي، حين تختار جماعةٌ أن تضع وجودها المادي على المحك كي تُعيد اكتشاف ذاتها المعنوية. كان قرار غزة أقرب إلى ذلك؛ انتحارٌ رمزي في سبيل البقاء الحقيقي. فحين تُغلق كل الأبواب، لا يبقى سوى كسر الجدار ذاته.
السنوار لم يكن مجرد قائد سياسي أو عسكري. كان مرآةً لنفسٍ جماعيةٍ لم تعد تقبل الحياة على هامش العالم. لقد تحوّل القهر الطويل إلى طاقةٍ تبحث عن معنى، عن رد اعتبارٍ للكرامة، عن لحظةٍ تصرخ فيها غزة لتقول: كفانا موتًا بلا أثر.
ولأن القرار خرج من عمق الإحساس الإنساني، فقد تجاوز حسابات السلاح والسياسة. لم يكن السؤال: هل سننتصر؟ بل هل يمكننا أن نحيا بكرامة ونحن صامتون؟. وهنا تكمن المفارقة الكبرى؛ فاليأس حين يبلغ أقصاه يتحوّل إلى شجاعة، والخوف حين يتشظى يولّد الحرية.

الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين قال يومًا: الثورات لا تنبع من الحلم بالمستقبل، بل من ضيق الحاضر.، وهذا بالضبط ما حدث. لم تكن غزة تطارد نصرًا عسكريًا، بل تحاول استعادة حقها في الوجود، في أن تُرى وتُسمع، في أن تفرض على العالم سؤالًا لا يستطيع تجاوزه بعد اليوم.
وحين سقطت أولى الصواريخ، لم تسقط على إسرائيل وحدها، بل على الرواية العالمية الزائفة. فالمشهد الذي أراده السنوار لم يكن ميدانيًا فقط، بل أخلاقيًا وإنسانيًا. أراد أن يُرغم الاحتلال على الظهور بلا أقنعته، أن يُجبره على أن يُظهر وجهه الحقيقي أمام العدسات. وقد حدث ذلك فعلاً، حين تحولت إسرائيل من ضحية إلى جلادٍ مكشوفٍ أمام ضمير البشرية.

الآن، بعد عامٍ من الحدث، تتغير اللغة العالمية. الجامعات في الغرب تهتف باسم فلسطين، والمفكرون يعيدون تعريف العدالة، والشعوب ترى ما لم تكن تراه. لقد خسر الاحتلال صورته قبل أن يخسر المعركة، وغزة كسبت موقعها في الوعي الإنساني، لا كمأساة، بل كرمزٍ للكرامة.

فهل انتحر السنوار؟

لا، بل قرر أن يكسر دائرة الموت الصامت، وأن يحوّل الحصار إلى فعلٍ حيٍّ يتجاوز الجغرافيا.

وهل انتحرت غزة؟

أبدًا، إنها الآن أكثر حضورًا من أي وقت مضى.

غزة التي أرادوا طمسها أصبحت شاهدًا على زمنٍ جديد، زمنٍ لا يُقاس بعدد الصواريخ، بل بعدد القلوب التي صارت تنبض باسمها في كل مكان.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.