بقلم د/ سماح عزازي
في عتمة الليل، حيث يذوب الوعي في أحضان النوم، ينهض شيءٌ ما من قاع اللاشعور، يخنق الأنفاس، ويقيّد الحركة، ويزرع الرعب في القلب، وكأن الكائن البشري قد أصبح فجأة سجينًا داخل جسده. إنها ظاهرة "الجاثوم"، ذلك الزائر الليلي الثقيل الذي حيّر الأطباء، وألهب خيال الشعوب، وفتح الباب واسعًا أمام أساطير غامضة ومرويات خارقة للطبيعة.
فما هو الجاثوم؟ أهو اضطراب عصبي نفسي يمكن تفسيره بلغة العلم، أم هو باب خفيّ يتسلل منه الماورائي إلى حياتنا؟ هذا ما نحاول استكشافه في هذا المقال.
تعريف الجاثوم شلل النوم بين الوعي واللاوعي
يُعرف الجاثوم طبيًّا باسم "شلل النوم" (Sleep Paralysis)، وهو حالة مؤقتة من عدم القدرة على الحركة أو الكلام، تحدث عند الانتقال بين مراحل النوم واليقظة، بحيث يبقى العقل في حالة وعي جزئي أو شبه تام، بينما يظل الجسد مشلولًا تمامًا. وغالبًا ما يصاحب هذا الشلل شعورٌ بالخوف الشديد، وضيق في التنفّس، وثِقل على الصدر، ورؤية هلوسات سمعية أو بصرية ذات طابع مرعب.
وما يميّز هذه الحالة هو إدراك الشخص الكامل لما يحدث، دون قدرته على المقاومة أو الفكاك، مما يجعل التجربة أقرب إلى كابوس يقظ لا فرار منه.
أعراض الجاثوم بين الفزع والعجز
تتفاوت الأعراض بين الأفراد، لكن أبرزها يشمل:
1_شلل عضلي تام: حيث لا يستطيع الشخص تحريك أطرافه أو النطق.
2_شعور بالاختناق أو ضيق في التنفس، يشبه الجلوس تحت صخرة.
3_هلوسات سمعية أو بصرية: يرى البعض ظلالًا تتحرك في الغرفة، أو يسمعون أصواتًا غريبة.
4_إحساس بوجود كائن شرير في الغرفة أو فوق الجسد، وهو الشعور الذي تغذّيه القصص الشعبية.
5_خفقان القلب والقلق الشديد عند انتهاء النوبة.
ورغم قصر مدتها التي قد لا تتجاوز بضع ثوانٍ إلى دقائق، إلا أن الأثر النفسي للجاثوم قد يمتد لساعات أو أيام.
أسباب الجاثوم ما بين النفس والدماغ
يرى علماء الأعصاب أن الجاثوم يرتبط بخلل في الانتقال بين مراحل النوم، لا سيّما بين نوم حركة العين السريعة (REM) واليقظة، حيث يحدث الشلل الطبيعي للجسد أثناء الحلم، لكن الوعي يستيقظ قبل الجسد.
ومن أهم الأسباب المعروفة:
1.القلق والتوتر المزمن
2.النوم غير المنتظم أو المتقطع
3.النوم على الظهر
4.اضطرابات النوم مثل انقطاع النفس الليلي أو الأرق
5.استخدام بعض الأدوية المنشطة أو المهدئات
6.الإرهاق الجسدي الشديد أو الضغوط النفسية
وقد أظهرت دراسات حديثة وجود ارتباط بين شلل النوم ونوبات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
أنواع الجاثوم بين النوم والاستيقاظ
يصنّف المختصون الجاثوم إلى نوعين رئيسيين:
1. الجاثوم عند بداية النوم (Hypnagogic): حيث يشعر الشخص بالشلل أثناء دخوله في النوم.
2. الجاثوم عند الاستيقاظ (Hypnopompic): وهو الأكثر شيوعًا، ويحدث عند الاستيقاظ المفاجئ من النوم العميق.
كلا النوعين يشتركان في الأعراض، لكن الاختلاف في التوقيت يجعل التجربة أكثر رعبًا عند الاستيقاظ.
الجاثوم في الثقافات المختلفة من الشياطين إلى الأرواح
من المثير للدهشة أن ظاهرة الجاثوم وردت في مختلف الثقافات منذ قرون، ولكل حضارة تفسيرها الخاص:
_في الثقافة العربية، يُعرف الجاثوم بأنه "الشيطان الذي يجثم على صدر النائم"، وغالبًا ما يُنسب إلى مسّ أو تسلّط من الجن.
_في التراث الأوروبي، كان يُطلق عليه اسم "Incubus"، أي العفريت الذكري الذي يخنق النساء أثناء النوم.
_في الفيليبين، يُعرف باسم "Bangungot"، ويُعتقد أنه موت مفاجئ بسبب الكوابيس.
_في الثقافة اليابانية، يسمى "Kanashibari"، أي القيد الشبح، وهو تأثير الأرواح الغاضبة.
وتعكس هذه الرؤى الشعبية محاولات الإنسان لتفسير المجهول قبل ظهور العلم الحديث.
علاج الجاثوم بين الوقاية النفسية والسلوكية
لا يُعد الجاثوم مرضًا عضويًا في حد ذاته، بل هو أحد أعراض اضطرابات النوم، لذا فإن العلاج يبدأ غالبًا بإصلاح نمط الحياة. وتشمل وسائل العلاج:
1. تنظيم مواعيد النوم والاستيقاظ
2. تجنّب السهر والإجهاد العقلي قبل النوم
3. الابتعاد عن الكافيين والمنبهات ليلاً
4. ممارسة تمارين الاسترخاء أو التأمل
5. علاج الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب
6. في الحالات المزمنة، قد تُوصف أدوية مضادة للاكتئاب تنظم دورة النوم
وقد أثبتت تقنيات مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) فعاليتها في تقليل نوبات الجاثوم.
بين الحقيقة والوهم هل الجاثوم دليل على العوالم الخفية؟
رغم التفسيرات الطبية المقنعة، يبقى في تجربة الجاثوم شيءٌ غامض يصعب تجاهله. هل هي مجرد خلل عصبي؟ أم أن وعينا يفتح، في لحظات الهشاشة تلك، بوابة تطل على عوالم أخرى؟
القرآن الكريم يشير في مواضع كثيرة إلى عالم الغيب، وإلى وجود مخلوقات لا تراها الأبصار، كالجن والملائكة. يقول تعالى:
{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
ورغم وجوب عدم تحميل الأمور فوق ما تحتمل، فإن التفسيرات الدينية والروحانية لا تتعارض مع العلم، بل تكمله في أحيان كثيرة، وتضفي عليه أفقًا أوسع لفهم النفس الإنسانية.
الجاثوم، تلك اللحظة التي يتقاطع فيها الحلم بالواقع، والوعي بالعجز، والخوف بالغموض، هو تذكير بأن في جسد الإنسان أسرارًا لم تُفكّ شيفرتها بعد. ما بين نبضات القلب المرتجفة، ونظرات العين المذهولة، يقف العقل حائرًا، والروح في مواجهة المجهول.
ولعل أعظم ما يحتاجه الإنسان أمام هذا الزائر الليلي ليس فقط الطب والعلم، بل الطمأنينة، والسكينة، واليقين بأن وراء كل ظلمة فجرًا، ووراء كل ضيقٍ فرجًا، ووراء كل جاثوم… يقظة.
إضافة تعليق جديد