المقال الرابع
قبل أن يرحلوا... أشياء تمنّينا لو قلناها
بقلم د/ سماح عزازي
حين تتأخر الكلمات… ويغلق القدر الأبواب
هناك لحظات في حياتنا لا تُنسى، لكنها لا تأتي إلا بعد أن يكون كل شيء قد انتهى.
لحظات نقف فيها أمام أبواب أُغلقت، أمام وجوهٍ لم تعد موجودة، ونكتشف أننا كنّا نحمل أنهارًا من الكلمات في قلوبنا… لكننا صمتنا.
أجل، صمتنا حين كان يجب أن نقول: “أحبك”،
أو حين كان ينبغي أن نعتذر بدمعة قبل أن يتحوّل الجرح إلى هوّة.
نُؤجّل الحُبّ بحجّة أن هناك وقتًا، ونؤجّل المصالحة بحجّة أن اللقاء غدًا ممكن،
ثم نفاجأ أن الغد لم يأتِ أبدًا.
ويجيء الغياب ليكشف لنا قسوة الحقيقة: أن الكلمات المؤجّلة تتحوّل إلى أشباحٍ في القلب، تُطاردنا كل ليلة، تهمس في آذاننا: “لماذا لم تقوليني؟”.
في حضرة الغياب، لا يُؤلمنا الفقد وحده…
بل تُؤلمنا الكلمات التي لم تُولد أبدًا،
الأحضان التي لم نُعطها، النظرات التي أخفيناها،
وكل تلك المشاعر التي ظلّت حبيسة حتى صار الصمت قبرها الأبدي.
حين نُدرك أن الكلمات لا تُقال إلا بعد فوات الأوان
هناك لحظة صامتة، تأتي متأخرة دائمًا، لحظة ندرك فيها أن هناك كلمات كثيرة بقيت حبيسة في قلوبنا…
كلمات كان يجب أن تُقال، لكنها لم تجد طريقها إلى الشفاه إلا حين صار الأوان قد فات،
إلا حين صارت المسافة بيننا وبين من نحبّ أوسع من كل جُمل الاعتذار، أبعد من كل حروف الحنين.
نقف أمام الغياب، فنعرف فجأة أننا لم نقل لهم ما يكفي:
“أحبك” التي أخجلنا الكبرياء من قولها،
“سامحني” التي أخرسنا العناد عن النطق بها،
“لا ترحل” التي تمنّينا لو قلناها في اللحظة الأخيرة…
لكننا صمتنا.
وصار الصمت جرحًا لا يندمل.
في هذا المقال، لا نكتب عن الغياب وحده…
بل عن الصمت الذي سبق الغياب، عن الكلمات التي بقيت في حناجرنا مثل غصّة،
وعن كيف يعلّمنا الفقد أن الحياة أقصر من أن نُبقي مشاعرنا سجينة.
لأننا كنا نظن أن هناك وقتًا أكثر
نعم، كنّا نظن دائمًا أن هناك متّسعًا.
أن الغد سيتّسع لكل ما لم نقله اليوم، أن القادم سيمنحنا فرصة للضحك أكثر، للاعتذار أكثر، للحبّ أكثر…
لكن الغياب لا يُمهل.
يأتي بلا موعد، ويختطف كل تلك الفُرص المؤجَّلة، ويتركنا نُحدّق في قلوبنا الممتلئة بالكلمات التي لم تُقال.
نُعيد في رؤوسنا ألف مرة تلك اللحظة الأخيرة،
نسمع خطواتهم تغادر، نُقسم لو عادوا دقيقة واحدة فقط، لقلنا كل شيء،
لصرخنا: “ابقَ… أحبك… احتجتك أكثر مما ظننت.”
لكنهم لا يعودون.
وتظل الكلمات فينا ندوبًا لا تُرى… لكنها تُوجع كل يوم.
أقسى ما في الغياب ليس رحيلهم، بل تلك الأسئلة القاسية التي تلسعنا بعد أن يرحلوا:
– لماذا لم أُخبره يومًا أنه كان ملاذي؟
– لماذا أخفيت دموعي حين كنت أحتاج حضنه؟
– لماذا سمحت للخلافات الصغيرة أن تأكل أيامنا بدل أن أُطفئها بكلمة واحدة؟
نُعيد شريط الذكريات مرارًا، نُدقّق في الحوارات القديمة كأننا نبحث عن مخرج،
ونتمنى لو نعود دقيقة واحدة فقط، لا لنغيّر الحياة، بل لنقول جملة واحدة لم نجرؤ على قولها في وقتها.
لكن الحياة لا تمنحنا هذا النوع من العودة، فتتحوّل قلوبنا إلى مسرح ندمٍ أبدي،
نجلس فيه كل ليلة، نُكرّر البروفات التي لن تُعرض أبدًا أمام من رحلوا.
الحنين رسالة لم تُرسل أبدًا
بعد الرحيل، نصبح رسّامين بائسين للندم.
نكتب رسائل طويلة لا تُرسل،
نُدرّب أصواتنا على جمل لن تُقال،
نُخاطب الصور كأنها ستردّ، ونضع أيدينا على قلوبنا ونعتذر بصوت لا يسمعه سوانا.
الحنين ليس شوقًا فقط، إنه الرسالة المؤجّلة التي لم تجد بريدها أبدًا.
الاعتذار الذي لم يُقل في وقته.
الضحكة التي خنقناها بدافع الكبرياء.
الكلمة التي كان يمكن أن تُنقذ لحظة، لكننا تركناها تموت على أطراف ألسنتنا.
حين يغيبون، لا يختفي صوتهم كما نتصور… بل يتحوّل إلى صدى يطاردنا في كل لحظة صمت.
في المطبخ نسمع ضحكتهم تتردّد، في الممرّ خطواتهم تمرّ كأنهم ما زالوا هنا، وفي أحلامنا يظهرون ليقولوا ما لم يقولوه… ونُحاول أن نقول ما لم نقله.
لكن الأحلام خائنة…
تتركنا نمدّ أيدينا فلا نلمس سوى الهواء، تُعيدنا إلى الواقع بحسرة أثقل من النوم نفسه.
فنستيقظ ودمعة عالقة على وسادتنا، وصوت خافت في أعماقنا يهمس:
"لماذا لم تقلها حين كان يسمعك؟ لماذا لم تعانقه حين كان أمامك؟"
وهكذا يتحوّل الغياب إلى مرآة للصمت، تُرينا أننا لم نفقدهم فقط… بل فقدنا نحن أيضًا فرصة القول قبل أن يُغلق القدر الأبواب.
هكذا نصبح بعد الغياب: نكتب للغائبين في الهواء، ونترك الكلمات تتبخر،
لأنهم لم يعودوا هنا… ولأننا لم نقلها يوم كانوا هنا.
أن نتعلّم أن نقولها… الآن
الفقد يعلّمنا درسًا قاسيًا: أن الوقت ليس مضمونًا، وأن الناس ليسوا أبديين.
يعلّمنا أن نُعيد ترتيب أحاديثنا، أن نخلع الكبرياء من ألسنتنا، وأن نُسرع لقول كل ما نحمل قبل أن يُسرع الرحيل.
أن نقول: “أحبك” في وضح النهار دون خوف.
أن نعتذر دون أن نُقايض على كرامتنا.
أن نُمسك أيديهم ونقول: “لا ترحلوا عن قلوبنا، حتى لو اضطررتم أن ترحلوا عن أعيننا.”
لأن الحياة، بكل قسوتها، تمنحنا درسًا واحدًا يسطع كالشمس:
الكلمات التي لم تُقل… تصبح غيابًا آخر.
لأن الحبّ لا يُؤجَّل
في النهاية، نُدرك أن كل شيء في هذه الحياة قابل للتأجيل…
إلا الكلمة التي تُشفى القلب.
إلا الحبّ الذي يُقال الآن، لا غدًا.
إلا الاعتذار الذي يُرمّم قبل أن ينكسر كل شيء.
الغائبون علّمونا أن الندم طعمٌ لا يُحتمل، وأن الصمت أحيانًا أقسى من الموت.
علّمونا أن نُعانق الحياة بحروف صادقة، أن نُرسل رسائلنا قبل أن تُصبح صلوات،
أن نقول “أحبك” اليوم، لا في الغياب،
وأن نُبقي قلوبنا خفيفة، كي لا نُثقلها بكلمات ماتت ولم تُولد.
وهكذا… حين نكتب، حين نحب، حين نعتذر، نفعلها كلها قبل أن يرحلوا.
حتى لا نعيش أسرى للصمت
في النهاية، لا يبقى في قلوبنا سوى حقيقة واحدة:
أن الحبّ الذي لا يُقال… يموت.
أن الاعتذار الذي لا يُنطق… يتحوّل إلى ندبة أبدية.
أن الصمت، في حضرة من نُحب، ليس قوة ولا كبرياء… بل خسارة لن يُعوّضها شيء.
لهذا، علينا أن نخلع قيود التردّد، أن نُسرع بقول كل ما نحمله في قلوبنا قبل أن يسرع الغياب.
أن نُخبرهم أنهم وطننا، ملاذنا، أن نعتذر حين نُخطئ، أن نضحك حين نُحب، أن نقول كل شيء… الآن.
لأنهم سيرحلون يومًا – لا محالة – وسيرحل الكلام معهم،
وسيتركنا خلفهم نرتّق جراحنا بجمل لم تُقَل،
وندعو الله في صمت أن يمنحنا فرصة أخرى، ولو في الأحلام،
لنعانقهم مرة واحدة… ونقول ما لم نقله.
لكن الأحلام ليست وعدًا، والحياة لا تمنحنا عُمرًا ثانيًا لنُصحّح كل ما فات.
لذا، قلها الآن.
قلها بأبسط الكلمات وأصدقها.
قل “أحبك”، “أشتاقك”، “سامحني”.
قلها قبل أن يرحلوا… حتى لا تكون غدًا واحدًا منّا،
تكتب رسائل في الهواء… وتبكي لأن لا أحد سيقرأها.
إضافة تعليق جديد