رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأربعاء 30 يوليو 2025 2:05 م توقيت القاهرة

سلسلة حكايات من واقع الحياة الحكاية السابعة عشر "يد أعطت… ففتحت أبواب النجاة"

بقلم /سماح عزازي

في عالمٍ يموج بالضجيج، وتتنازع فيه الأهواء، تُولد أحيانًا حكايات نادرة، كأنها نُسجت من خيوط السماء، حكايات تُعيد إلى قلوبنا الإيمان بأن الخير لا يزال يتدفق في عروق البشر مهما علا الغبار على الوجوه. حكايات تخرج من بين تفاصيل الحياة اليومية، من موقف عابر، من كلمة عفوية أو يد امتدت بالمساعدة دون أن تطلب مقابلاً، فتتحول إلى معجزات صغيرة، لكنها كبيرة بما يكفي لتُغيّر مصائر.

هناك، في حيّ بسيط، جلس تاجر أجهزة كهربائية يتصفح هاتفه في يوم بدا عادياً، كما لو أنه نسخة مكررة من آلاف الأيام. لم يكن يعلم أن الله كتب له أن يصبح بطلاً لقصة لم يتخيلها عقله ولم تخطر على قلبه. لم يكن يعلم أن نقودًا ستغادر جيبه اليوم، لكنها ستعود بعد حين وهي محمّلة ببركة لم يشهد مثلها من قبل.

في الحكاية القادمة، سنرى كيف يمكن لابتسامة صادقة أن تسبق قرارًا رحيمًا، وكيف يمكن لمبلغٍ بسيط أن يتحوّل إلى طوق نجاة لطفلين في آن واحد. سنرى يدًا تُمدّ دون تردد، وسماءً تردّ العطاء بأضعافه… وكأنها تهمس: "ازرعوا الخير، تجدوا اللطف في أحرج اللحظات."

في زوايا الحياة البسيطة، بين أرصفة الأحياء الشعبية ومقاهي الأرصفة وشرفات البيوت المتقابلة، تحدث حكايات أعظم من أن تُقاس بالمال وأعمق من أن تُحكى بجملة عابرة. هناك، حيث يتقاطع المعروف مع القدر، وحيث يُخبئ الله رحمته في يد عابر سبيل أو في قلب جار، تُولد قصص لا تُروى إلا لتجعلنا نعيد التفكير في معنى الخير،

كان “أبو يوسف” تاجر أجهزة كهربائية معروف في حيه. رجل بسيط، لم يُعرف عنه يومًا الجشع، ولا غاب عن لسانه حمد الله وشكره. في ظهيرة يوم عادي، جلس يتصفح هاتفه، يتنقل بين إعلانات “الفيسبوك”، حين استوقفه منشور يعرض بوتاجازًا وشاشة مستعملة للبيع. لم يتردد؛ اتصل بالرجل وعزم أن يذهب ليشتريهما، فما التجارة عنده إلا باب رزق يُباركه العمل الطيب.

وفيما هو يهمّ بالنزول، ناداه جاره من شرفة منزله:
– “معلش يا أبو يوسف، استحملني… محتاج ألف جنيه سُلفة. البيت محتاج شوية صيانة، والموضوع جه فجأة.”

لم يتوقف “أبو يوسف” لحظة ليفكر؛ أخرج المال من جيبه وقال ببساطة كأنما يعطيه كوب ماء:
– “ولا يهمك حاجة… الألف جنيه تحت أمرك.”

مضى في طريقه إلى البائع، وصل، تفحص البوتاجاز والشاشة، وساوم الرجل كعادة أي تاجر:
– “بالصلاة على النبي، دول ما يسووش أكتر من خمسة آلاف.”

ابتسم البائع بحزن وقال:
– “ده أنا كده هخسر فيهم كتير، ومش هعرف أبيع غيرهم أبدًا.”

رفع “أبو يوسف” السعر قليلًا بدافع اللين:
– “خلاص… خمسة آلاف وخمسمية، وآخر كلام عندي.”

لكن الحوار لم ينتهِ عند البيع والشراء. فجأة، نطق الرجل بجملة أذابت كل جليد المساومة:
– “هات الفلوس بسرعة… لازم أروح لابني في المستشفى. بين الحياة والموت. العملية مستعجلة.”

توقف “أبو يوسف”. قلبه الأبوي خفق. تخيّل ابنه يوسف على سرير بارد في غرفة عمليات، تخيّل قلق أمّ تبكي بجانب السرير. عندها قال جملة لن تُنسى:
– “اسمع يا أستاذ… أنا حد الله بيني وبين الحاجة دي. خلي الأجهزة في بيتك، وخد الفلوس وروح لابنك. ولما تفرج عليك، رجّعها لي.”

أشرق الدمع في عيني الرجل:
– “إنت بتتكلم بجد يا معلم؟!”

أجابه “أبو يوسف” بابتسامة هادئة:
– “كله من فضل الله… أنا أب زيك، وعندي ابن وحيد. حاسس بيك… وحاسس بأمه.”

بكى الرجل بحرقة، وهو يردد الدعاء:
– “ربنا يجبر بخاطرك، ويخليلك ابنك، ويكفيه شر المرض.”

عاد “أبو يوسف” إلى بيته خفيف القلب، وهو يتمتم: “الحمد لله الذي جعلنا مفاتيح للخير.” لكن الخير لم يتوقف هنا.

حين دخل بيته، ناداه جاره، ذلك الذي استدان الألف جنيه قبل ساعة، وقد بدا على وجهه أثر ذهول ممزوج بفرح:
– “إنت راجل طيب يا أبو يوسف… فيك شيء لله.”

 “خير يا جاري؟ قلقتني!”

أجابه الجار وهو يكاد لا يصدق:
– “النهارده حصلت معجزة… يوسف، ابنك، كان بيلعب في البلكونة، ووقع من الدور التاني! لكن الحمد لله… وقع على الرمل اللي أنا اشتريته بالألف جنيه اللي سلفتهالي. قوم زي الحصان، محصلوش حاجة.”

تجمّدت الكلمات في فم “أبو يوسف” للحظة، ثم اغرورقت عيناه بالدموع:
– “الحمد لله يا رب على كرمك وسترك.”

في تلك اللحظة، أدرك “أبو يوسف” أن الألف جنيه لم تنقذ فقط بيت جاره، بل أنقذت حياة ابنه الوحيد.

وبعد شهر، رنّ هاتفه. كان الرجل الذي أخذ المال لأجل ابنه على الخط:
– “فلوسك جاهزة يا معلم… وهجيلك بيها لغاية عندك. أبوس على إيدك قبل راسك… فلوسك أنقذت حياة ابني.”

ابتسم “أبو يوسف” وردّ بهدوء:
– “لا تقولش كده يا أستاذ… الفلوس دي كانت سبب في إنقاذ حياة ابني أنا.”

في قصة “أبو يوسف” تنكشف معاني الرزق الخفي، وتظهر كيف يتداخل المعروف مع القدر ليصنع لوحة إلهية من الرحمة. أحيانًا يُرسل الله إنقاذك من حيث لا تعلم، ويكتب النجاة في يد جارك أو في قلب غريب.

إنها ليست مجرد قصة عن ألف جنيه، بل عن ألف معنى… عن يد أُعطيت بلا تفكير، ففتحت بابًا من أبواب اللطف الإلهي.

في زمن يتسابق فيه الناس على جمع المال، نحتاج أن نتذكر أن بعض الأموال لا تُجمع… بل تُزرع. وكل درهم يُزرع في الخير، يعود يومًا ليُنقذنا أو يُنقذ من نحب، في اللحظة التي لا نملك فيها إلا أن نقول: “الحمد لله الذي رزقنا من حيث لا نحتسب.”

حين أسدل الليل ستاره على ذلك اليوم، كان كل شيء قد تغيّر. تاجر الأجهزة البسيط لم يعد مجرد بائع يشتري ويبيع، بل أصبح شاهدًا حيًا على أن معجزات الله لا تحتاج إلى صخب كي تُرى؛ أحيانًا تأتي في صورة جاره يطلب سُلفة عاجلة، أو في دمعة رجل يستجدي حياة ابنه، أو في ابتسامة طفل يقوم من تحت الرمل كأن الملائكة حملته.

لم تكن الألف جنيه مجرد ورقة نقدية، كانت رسالة. رسالة تقول إن الخير الذي تُقدّمه سيعود إليك، ربما ليس من نفس الباب، لكن من بابٍ آخر لم تكن تتخيله. كانت دليلًا على أن الله يُخبئ لطفه في قلوب العباد، ويُرسل رحمته على هيئة جبر خواطر متبادل، يرفع بها إنسانًا من حفرة حزن، وينقذ بها آخر من موت محقق.

أيها القارئ…
في هذه القصة، يتجلّى وعد الله الذي لا يخلف:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا * وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُ﴾.

فكن أنت هذا المخرج، وهذه اليد التي يزرع الله بها الرحمة في الأرض. امدد خيرك، فربما تُنقذ به روحًا لا تعرفها… وربما يكون هو نفسه الحبل الذي تتعلق به حياتك ذات يوم، حين يجيء لطف الله من حيث لا تدري.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
10 + 10 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.