رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 26 يونيو 2025 7:31 م توقيت القاهرة

الهجرة النبوية الشريفة.. حينما خطّت الأقدار طريق النور من مكة إلى يثرب

بقلم د/سماح عزازي
حين يكتب القدر على صفحة السماء
في زمنٍ كانت الأرض تئنُّ تحت وطأة الظلم، والسماء تستعدُّ لإرسال قبسٍ من نورها، وقف رجلٌ وحيدٌ على صخرة التوحيد، يتحدّى أمواج الجاهلية، وتيارات البغي، وعواصف الحقد. رجلٌ يحمل في قلبه رسالة السماء، وفي يمينه مفاتيح الهداية، وفي خطاه طريق الخلود.
في ليلٍ مكتظٍّ بالمؤامرات، وسماءٍ مرصعةٍ بعيون الأعداء، تُكتب على صفحة الأقدار أعظم رحلة عرفها التاريخ... ليست رحلة جسدٍ يقطع المسافات، بل رحلة روحٍ تشقُّ دروب المجد، وميلاد أمة، وسطرٌ خالدٌ يبدأ من مكة، ليضيء أرجاء العالم من يثرب... هناك، حيث امتزجت دموع الوداع بأهازيج الاستقبال، وحيث طلع البدر لا ليغيب، بل ليبقى شاهدًا على أن النور أقوى من الظلمة، وأن الحقّ يمضي مهما تكالبت عليه الجموع.
في تاريخ الأمم والشعوب محطات تُرسم فيها الحدود الفاصلة بين عهدين: عهد الاستضعاف وعهد التمكين، بين الظلمة والضياء، وبين الضياع والهداية. ومن بين أعظم تلك المحطات وأكثرها إشراقًا في تاريخ البشرية قاطبة، تظلُّ الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حدثًا خالدًا، غيّر مجرى التاريخ، وأسس لدولة حملت رسالة السماء إلى الأرض.
ما قبل الهجرة.. معاناة وملاحم صبر
لم تكن الهجرة قرارًا عابرًا، ولا فرارًا من بطش قريش، بل كانت صفحة جديدة من صفحات البلاغ، ومرحلة فاصلة في مسيرة النبوة. ثلاثة عشر عامًا قضاها رسول الله ﷺ في مكة، صامدًا في وجه الجهل والظلم، صابرًا على الأذى، وقد تحالفت عليه قريش بكل أصنافها.
لقد بلغ الأذى مداه، حين ماتت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وعمّه الحامي أبي طالب، في عام عُرف في السيرة بعام الحزن. حاول النبي ﷺ أن يجد متنفسًا للدعوة خارج مكة، فذهب إلى الطائف، فما كان إلا أن رُمي بالحجارة وطُرد شر طردة. ومع ذلك، لم تلن له قناة، ولم يتزعزع يقينه.
بوادر الأمل.. بيعة العقبة وفتح نافذة إلى يثرب
في موسم الحج، كان اللقاء الذي غيّر مجرى الأحداث. جاء وفد من الأوس والخزرج، أهل يثرب (المدينة لاحقًا)، فعرض عليهم النبي ﷺ الإسلام، فاستجابوا. تلت ذلك بيعتان تاريخيتان: بيعة العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية، حيث تعهّد الأنصار بحماية رسول الله ﷺ والدفاع عنه كما يحمون أنفسهم وأهليهم.
يصف ابن هشام في سيرته هذه اللحظة بقوله:
"خرج رسول الله ﷺ إليهم، ومعه العباس بن عبد المطلب، وكان يومئذ على دين قومه، ولكنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويطمئن عليه".
قرار الهجرة.. حين كتب القدر كلمة الفصل
بدأت قريش تدرك أن الدعوة خرجت عن سيطرتها، وأن الخطر يقترب من مصالحها ووجودها. اجتمع أقطابها في دار الندوة، وتدارسوا أمر محمد ﷺ، حتى انتهى رأيهم إلى أخبث فكرة: قتله على يد شباب من مختلف البطون، ليضيع دمه بين القبائل.
نزل الوحي على النبي ﷺ بأمر الهجرة، فقال له جبريل عليه السلام:
"لا تبت هذه الليلة في فراشك".
خرج النبي ﷺ ليخبر صاحبه أبا بكر الصديق رضي الله عنه، الذي كان يستعد منذ فترة للهجرة، وقال له:
"إن الله قد أذن لي بالخروج"، فبكى أبو بكر من شدة الفرح، وقال: "الصحبة يا رسول الله؟"، فأجابه: "الصحبة".
الموقف الإنساني.. حين ودّع الحبيب وطنه
لم تكن لحظة الفراق عابرة، بل كانت مشهدًا إنسانيًا يقطر وجعًا وحبًا. حين وقف رسول الله ﷺ عند مشارف مكة، التفت إليها بعين دامعة، وقلب يعتصره الحنين، وقال:
"والله إنك لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت".
تلك الكلمات، ليست مجرد تصريح عابر، بل خلاصة عشق الأرض، وحنين الروح، ورسالة خالدة في وجدان كل من يذوق مرارة الغربة والتهجير. لم يهاجر النبي طمعًا في جاه، ولا طلبًا لملك، بل قسرًا بفعل ظلم قومه... ولكن بقلب مفعم باليقين أن أرض الله واسعة، وأن الحق مهما ضُيّق عليه في مكان، سينبت في أرض أخرى نورًا وهداية.
الهجرة.. خطة محكمة بإرادة السماء
ليست الهجرة كما يحاول البعض تصويرها مشهدًا عاطفيًا فقط، بل كانت عملًا منظمًا متكامل الأركان. وُضعت خطة دقيقة جدًا:
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبيت في فراش النبي ﷺ تمويهًا على القوم.
خرج النبي ﷺ مع أبي بكر سرًّا، وسلكا طريقًا غير معتاد، نحو الجنوب إلى غار ثور، مكثا فيه ثلاث ليال.
كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تزوّدهما بالطعام، وعبد الله بن أبي بكر يأتي بالأخبار، وأجير أبي بكر، عبد الله بن أريقط، يتولى الإرشاد في الطريق.
قال تعالى في مشهد بالغ العظمة:
﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثنَينِ إِذ هُمَا فِي الغارِ إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: 40].
أبطال الظل.. وجوه في خلفية المجد
الهجرة لم تكن عملًا فرديًا، بل ملحمة جماعية شارك فيها رجال ونساء، شباب وشيوخ، بأدوار تكاملت كأنها قطعة فسيفساء ربانية:
أسماء بنت أبي بكر، ذات النطاقين، شقت نطاقها نصفين، أحدهما لتربط به زاد النبي وأبيها، والآخر لتربط متاعها، متحدية حصار قريش، حاملة الطعام لركب الهجرة في ظلام الليل.
عبدالله بن أبي بكر، شاب في مقتبل العمر، كان عين النبي في مكة، يرصد الأخبار والمؤامرات وينقلها سرًا إلى الغار.
عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، كان يمشي بالأغنام خلف خطوات أسماء وعبدالله ليمحو آثار أقدامهم من على الرمال، في درس بالغ الذكاء والحنكة.
عبدالله بن أريقط، رجل مشرك لكنه أمين، اختير بدقة ليكون دليل الطريق، في تجسيد عظيم لمبدأ التعامل مع الكفاءة والنزاهة بغض النظر عن الدين أو الخلفية.
هذا المشهد يثبت أن صناعة النصر تحتاج عقولًا، وقلوبًا، وضمائر، وعملًا دؤوبًا خلف الكواليس.
في الطريق.. معجزات تتحدث بلغة الإيمان
في طريق الهجرة، حدثت مشاهد أعجزت الأعداء وأدهشت الأصدقاء:
محاولة سراقة بن مالك تعقب النبي ﷺ وأبي بكر، لكنه كلما اقترب غاصت قدما فرسه في الرمل، حتى علم أن الله يحمي هذا الرجل، فقال للنبي: "ادعُ الله لي أن ينجيني، ولك عليّ أن أردَّ من ورائي".
مرور النبي ﷺ بخيمتي أم معبد، والتي رأت منه ما لم تره في بشر، وسجّل وصفها له أدق وصف تاريخي لملامحه الشريفة.
الوعد الذي كتبه الغار وحققه التاريخ: سراقة وشهادة النبوة
كان سراقة بن مالك واحدًا من الذين طمعوا في المكافأة التي أعلنتها قريش لمن يأتي بمحمد وأبي بكر حيّين أو ميتين. امتطى فرسه وانطلق في أثرهم، حتى كاد يصل، فإذا بقدمي فرسه تغوصان في الرمل، وتتعثر، مرة بعد مرة، حتى أيقن أن لهذا الرجل سرًا من السماء.
حين اقترب، ناداه النبي ﷺ بكلمات ستظل أبد الدهر نبراسًا لكل من يحمل اليقين:
"يا سراقة، ارجع ولك سوارا كسرى".
كسرى؟! ملك فارس؟! وقتها كان المسلمون لا يملكون إلا قلوبهم وأقدامهم، بلا دولة، بلا جيش... لكن الوعد تحقق. بعد سنوات، وفي خلافة عمر بن الخطاب، يُهزم الفرس، ويُفتح قصر كسرى، ويُرسل سواراه إلى المدينة، فيلبسهما عمر لسراقة، ويقول له: "هذا وعد رسول الله ﷺ... وقد تحقق".
إنه وعد من لا ينطق عن الهوى، شهادة أن هذا الدين سينتصر، مهما طال الطريق.
الوصول إلى يثرب.. يوم مشهود تهتز له القلوب
دخل النبي ﷺ المدينة على مشهد لم تعرفه البشرية من قبل، خرج الأنصار، رجالًا ونساءً وأطفالًا، يملأون الطرقات يهتفون بقلوبهم قبل ألسنتهم:
"طلع البدر علينا من ثنيات الوداع...".
لقد تحوّلت يثرب إلى "المدينة المنورة"، مدينة النور، مركز الانطلاق لحضارة الإسلام التي غيّرت وجه العالم.
الهجرة.. تأسيس لأول عقد اجتماعي حضاري في العالم
بمجرد أن استقر النبي ﷺ في المدينة، لم يبدأ ببناء المسجد فقط، بل أسّس أول وثيقة مواطنة مدنية في العالم، عُرفت بـ "وثيقة المدينة"، التي كانت دستورًا ينظم العلاقة بين المسلمين، والمشركين، واليهود، وأهل المدينة كافة.
نصّت الوثيقة على:
حرية الدين والعبادة للجميع.
نصرة المظلوم كائنًا من كان.
احترام الحقوق والعهود.
الدفاع المشترك عن المدينة في حالة الاعتداء الخارجي.
في زمن لم تعرف فيه البشرية سوى القبلية والتمييز، وضع الإسلام هذه الوثيقة التي سبقت في مضمونها جميع المواثيق الدولية الحديثة. لم تكن المدينة مجرد وطن جغرافي، بل وطن قيمي، يتساوى فيه الناس على قاعدة الأخلاق والعدالة.
الهجرة.. ليست هروبًا بل بناء حضارة
الهجرة لم تكن فرارًا من ظلم، بل كانت انتقالًا من مرحلة الدعوة الفردية إلى بناء الدولة، دولة تجمع بين التوحيد والعدل، بين الحرية والمسؤولية.
أسّس النبي ﷺ أول وثيقة دستور في الإسلام، عُرفت بـ "وثيقة المدينة"، التي نظّمت العلاقة بين المسلمين واليهود والقبائل المختلفة، وأسّست لمبدأ المواطنة بمعناها الأصيل.
الدروس والعبر..
الهجرة ليست حدثًا ماضويًا بل مشروعًا مستمرًا
الهجرة تعني الانتقال من الفساد إلى الإصلاح، ومن الظلم إلى العدل، ومن الجهل إلى النور.
في الهجرة، تتجلى أروع معاني التخطيط، والأخذ بالأسباب، مع التوكل على الله.
هي رسالة لكل أمة تُحاصر أو تُستضعف أن الطريق إلى التمكين يبدأ بالإيمان والعمل والوعي.
حين خطّ الزمان على جبينه من هنا بدأ النور
إن الهجرة النبوية الشريفة ليست مجرد رحلة محفوفة بالأحداث، بل هي لوحة من القدر المرسوم بحكمة الله. من غار ثور خرج النور، ومن ثنيات الوداع أشرقت شمس لا تغيب. وما زال صدى التكبير والتهليل يوم دخل النبي ﷺ المدينة، يدوّي في ذاكرة الأمة، يوقظ فيها كلما خمدت جذوة الإيمان، أن سرّ النصر في الهجرة... والهجرة ليست جغرافيا، بل هجرة من الذنب إلى التوبة، ومن الغفلة إلى الوعي، ومن الظلمة إلى النور.
الهجرة... مفهوم يتجدد في كل زمان
ليست الهجرة حدثًا ماضيًا يُروى للتاريخ فقط، بل هي مشروع مستمر للأرواح الباحثة عن النور.
هجرة من الجهل إلى العلم.
هجرة من الفرقة إلى الوحدة.
هجرة من التبعية إلى الاستقلال.
هجرة من الخضوع للباطل إلى التمسك بالحق.
في عالمنا اليوم، الذي تشتد فيه الأزمات، وتتكالب فيه قوى الطغيان، تبقى الهجرة درسًا خالدًا: أن النور لا يُطفأ، وأن الحق لا يموت، وأن الذين هاجروا في سبيل الله، يكتب الله لهم نصرًا في الدنيا، وجنة في الآخرة.
حين تهاجر الأرواح إلى النور
لم تكن الهجرة خطى تمشي على الرمال، بل كانت نقشًا أبديًّا على صفحة الوجود. لم تكن مجرّد انتقال بين وطنين، بل كانت ارتحالًا من زمنٍ يموج بالظلام، إلى زمنٍ تستيقظ فيه الأرواح على أنشودة الإيمان.
ها هو التاريخ ينحني أمام تلك اللحظة التي قال فيها رسول الله ﷺ لصاحبه: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، فارتجفت قلوب الأعداء، واطمأنّت قلوب المؤمنين.
الهجرة، يا سادة، ليست حدثًا يُروى، بل روحًا تسري، ودرسًا خالدًا لكل من ضاق عليه المكان، وأظلم في وجهه الزمان... أن الطريق إلى النور يبدأ بخطوة هجرة... هجرة من اليأس إلى الرجاء، ومن الغفلة إلى الصحوة، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الإيمان.
ويبقى صدى البدر الذي طلع يوم دخل النبي ﷺ المدينة، يُنشد في القلوب قبل الألسنة:
"طلع البدر علينا... من ثنيات الوداع..."، شهادة أبدية على أن النور... لا يُطفأ.
المصادر والمراجع:
1. القرآن الكريم، سورة التوبة (40)، سورة الأنفال (30).
2. السيرة النبوية، ابن هشام، دار المعرفة، بيروت.
3. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، الطبعة المعتمدة من رابطة العالم الإسلامي.
4. قناة الجزيرة الوثائقية – سلسلة "السيرة النبوية".
5. هيئة الإذاعة البريطانية BBC – برنامج "تاريخ الإسلام".

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
2 + 1 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.