في زمن تسارعت فيه التقنية وتراجعت فيه القيم، باتت الحدود بين الناس رخوة، والمسافات وهمًا، والخصوصية في مهبّ الفوضى الرقمية. لم نعد نحتاج إلى طرق أبواب البيوت كي نقتحم حياة الآخرين، بل يكفي أن نضغط زرًا صغيرًا في جهازٍ نُمسكه بأطراف أصابعنا، لنتجاوز حُرمة المسافة، وأدب الاستئذان، ومواثيق الاحترام.
صارت الرسائل الخاصة تُرسل على استحياء، أو بلا حياء، من غرباء لا يعرفونك، ولا يربطهم بك سوى فضول عابر، أو فراغ قاتل، أو جهلٌ بمقام الناس وأقدارهم. وهكذا تحوّل "الخاص" إلى ساحة عامة، يُستباح فيها وقت المرء وهدوؤه وخصوصيته، دون استئذان، ودون مبرر، ودون ذوق.
وهنا، لا بدّ أن نقف. لا بد أن نقول كلمة الحق بوضوح:
إنّ احترام خصوصية الناس ليس خيارًا، بل هو أدبٌ واجب، وخلقٌ إنساني، وفرضٌ ديني أصيل. فلا دين يبيح التطفل، ولا عرف يبرر اقتحام المساحات الخاصة، ولا أخلاق تسمح بانتهاك حرمة الآخر تحت غطاء "رسالة عابرة".
وللأسف في زمنٍ باتت فيه وسائل التواصل نافذتنا على العالم، أصبحت خصوصيات الناس عرضة للانتهاك بغير وجه حق، وصار من المألوف أن يقتحم البعض الرسائل الخاصة دون سابق معرفة، ولا أدب استئذان، وكأنّ "الماسنجر" حقلٌ مفتوح لكل متطفل، ومَنزلٌ بلا أبواب!
وها نحن نقولها بصراحة لا مواربة فيها:
احترام الخصوصية فريضة… لا تطفل بعد اليوم إن الدخول إلى خصوصيات الآخرين دون إذن، ولو بكلمة، ولو برسالة، ولو بدون نية سوء—هو تصرفٌ مرفوض، ودلالة على جهلٍ وسوء أدب، لا تبرّره لا التكنولوجيا، ولا العادة، ولا "الفضول".
ما الذي يدفع شخصًا لا يعرفك، ولم يسبق له حديث أو تواصل معك، أن يطرق "بابك الرقمي" في غير حاجة؟
أليس هذا خرقًا للحياء؟ تطفلًا على الوقت؟ تعدّيًا على السكينة النفسية؟
أليس الاحترام يبدأ من أن تترك الآخر في حاله، ما لم يستدعك، أو يطلبك، أو تجمعك به مصلحة واضحة،
أو سبب مشروع؟
الخصوصية في ميزان الشريعة
الخصوصية في الإسلام ليست رفاهية، بل هي أدب واجب، وسلوك ديني، وحصن شرعه الله للمسلم في بيته، وفي ماله، وفي نفسه، وفي حديثه، وحتى في خياله.
قال الله تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا" (النور: 27).
فإن كان هذا في حق البيت المادي، فكيف ببيوت القلوب والعقول التي نلجها بكلمة أو رسالة دون استئذان؟
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر" (رواه البخاري).
أي أن الغرض من الاستئذان هو احترام وجود الآخر، وبيانه، واستئمانه، وهذا ينطبق على أبواب البيوت كما على أبواب الرسائل.
لا تؤذوا الناس بلا سبب
قال النبي صل الله عليه وسلم:
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت" (رواه البخاري ومسلم)،
فأين الخير في أن ترسل رسالة إلى من لا يعرفك، ولا يحتاجك، ولا ينتظر حديثك؟
أيّ نفع تُرجى من التواصل في غير موضعه؟
وما هي الحكمة من طرق باب لا أحد في الجهة الأخرى
ينتظر أن يُفتح؟
ليس كل "خاص" دعوة مفتوحة
إلى كل من يرسل رسالة دون مناسبة، أو يبدأ حديثًا دون داعٍ، أو يظن أن الولوج إلى "الخاص" لا يستدعي أدبًا ولا حدودًا، نقول:
قف. لا تفعل. تروَّ. فإنك تُحاسب على الكلمة، كما تُحاسب على الخطوة، وإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
ولو نظر كلٌّ منا إلى "الخاص" على أنه غرفة خاصة، لا يُطرق بابها إلا لضرورة، لما تجرّأ على اقتحامها دون استئذان أو مناسبة.
نداء إلى المجتمع الرقمي
يا مستخدمي المنصات، اجعلوا للأدب منزلة، وللخصوصية حرمة. لا تجعلوا من الرسائل الخاصة ساحة للعبث، ولا من تطبيقات التواصل وسيلة لإزعاج الآخرين بلا موجب.
علّموا أبناءكم أدب الاستئذان الرقمي، تمامًا كما نعلمهم كيف يطرقون الأبواب، ويسلمون، ويطلبون الإذن قبل الحديث.
وأخيرًا وليس اخرا …ما أجمل أن نحترم وقت غيرنا كما نحترم وقتنا، ونُراعي خصوصية الناس كما نحب أن تُراعى خصوصيتنا. فلنردد معًا قول النبي الكريم:
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (رواه البخاري ومسلم). ومن أحب لنفسه أن يُترك في راحة، فليترك الناس في راحتهم، ومن أحب أن يُخاطَب بأدب، فليُؤدّب نفسه أولًا. اللهم اجعلنا ممن يحترمون الناس في غيابهم كما في حضورهم، في العلن كما في الخفاء، وفي الواقع كما في العالم الرقمي.
الحياء... زينة القلب وسياج السلوك
إنّ من أعظم ما يضبط تصرّفات الإنسان ويهذبها هو الحياء، ذاك الخُلق النبيل الذي إذا حلّ في قلب، زان صاحبه، وجعله عفيف النظر، كريم اللفظ، راقي السلوك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير" (رواه البخاري ومسلم)، بل جعله من شُعَب الإيمان حين قال: "الحياء شعبة من الإيمان".
فالحياء ليس ضعفًا ولا ترددًا، بل هو حياء العقلاء، ووقار الحكماء، وجمال النفوس السويّة. ومن فقد الحياء، تجرّأ على ما لا يليق، وقال ما لا ينبغي، وطرق أبوابًا ما كان له أن يقترب منها.
إن الذي يدفع الإنسان لأن يبعث رسالة إلى غريب لا يعرفه، أو يقتحم خصوصية غيره بغير حاجة ولا إذن—هو فقدان الحياء قبل فقدان الحكمة. ولو استحيا المرء من ربه، ومن نفسه، ومن الناس، ما تجرأ على أذية أحد ولو بكلمة.
فيا من ترسل، تذكّر الحياء. ويا من تكتب، تذكّر أن الله يراك قبل أن يقرؤك الناس.
وفي الختام...
لسنا في هذا المقال نغلق أبواب التواصُل، ولا نُجرّم الكلمة الطيبة، ولا نحذّر من رسالة صادقة لوجه الله، ولكننا نضع حدًّا فاصلًا بين الأدب والتطفل، بين الحياء والجرأة البلهاء، بين التواصل الإنساني والاقتحام المَرَضي.
فلنراجع أنفسنا، ولنُربّي أبناءنا على أن الخصوصية ليست رفاهية، بل حق، وأن الاحترام لا يُطلب بل يُمنح، وأن للناس حرمات في العالم الرقمي كما لهم حرمات في البيوت.
ولا ننسَ قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
"كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" (رواه مسلم)،
فكيف نبيح لأنفسنا أن نخدش هذه الحُرُمات برسائل لا تُسمن ولا تُغني، أو كلمات لا تُقال؟
الحياء لا يُورَث، بل يُزرَع،
والأدب لا يُكتسب من الشاشات، بل من القلوب،
والاحترام لا يكون بالصوت العالي، بل بالصمت حين يجب، والتريّث حين يُستحب، والصمت عن ما لا يعنينا.
فلنكن من قوم إذا مرّوا مرّوا كرامًا، وإذا تكلّموا نطقوا بخير، وإذا كتبوا راعوا الله قبل الناس.
فمن لا يحترم خصوصية غيره، لا يستحق أن يُؤتَمن على حرف.
إضافة تعليق جديد