رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

السبت 21 يونيو 2025 6:12 م توقيت القاهرة

خريف الأرواح… نعمة لا يفطن إليها إلا القليل

بقلم د/سماح عزازي 

في زمنٍ يتزيّن فيه كل شيء… الكلمات، الوجوه، وحتى المشاعر، تأتي لحظات لا يبقى فيها للزيف مكان، ولا ينجو من غربال الحقيقة إلا ما كان أصيلًا.
تلك اللحظات ليست شتاءً قاسيًا كما نظن، بل خريفًا رحيمًا… يسقط فيه ما لا يلزم، ويتعرّى فيه ما كان يستتر بالزينة، لتبقى الأرواح في صفائها، وتظهر العلاقات على حقيقتها.
هو خريف الروح… نعمة خفية لا يراها إلا من نظر بقلبه، ووزن الأشياء بميزان التجربة لا الظاهر.

من نعم الله الخفية، تلك التي لا تُدرَك بالبصر بل بالبصيرة، أن لكل روحٍ خريفها…
ذلك الفصل الصامت، الذي لا يُعلن مجيئه بصخب الألوان، بل يأتي خفيفًا كهمسةٍ في ليلٍ طويل، فيسقط منّا ما تراكم من أوراق الزهو، وتذبل فيه زهور الإعجاب المؤقت، وتنكشف الحقائق التي أخفتها زخارف المواسم.

 {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}  (الرعد: 17)

في خريف الأرواح، لا يعود البريق معيارًا، ولا الجمال الظاهري شفاعة، ولا الأحاديث المعسولة ضمانًا لبقاء أحد.
هو الفصل الذي تُغربل فيه العلاقات، وتُختبر فيه القلوب، فلا يبقى في محيطك إلا أولئك الذين أحبّوك بلا زينة… الذين رأوا فيك الجذر لا الزهر، الأصل لا القشرة، العمق لا الواجهة.

 "إذا المرءُ لا يرعاكَ إلا تكلُّفًا... فدَعهُ ولا تُكثِرْ عليه التأسُّفا"
— الإمام الشافعي

أما أولئك الذين مرّوا بك كما تُزهَر الحقول بين ربيع وآخر، فقد أغرتهم بهجة المواسم، ودوّختهم رائحة الزهر، فاستأنسوا بجمالك المؤقت دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء الغرس في ترابك، أو السقيا في أوقات العطش، أو الحضور في ساعات الذبول.
هؤلاء العابرون ما عرفوا للثبات طعمًا، ولا للإخلاص معنى… يسافرون من حياة إلى أخرى، كما تسافر الفراشات بين الأزهار، بلا جذور، بلا نوايا، بلا انتماء.

 "كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها"
(النازعات: 46)

يمضون، يلوّحون بالضحكات، يخلّفون خلفهم آثار عبور خفيف، يظنون أنه سيبقى… لكن الأيام لا تحفظ العابرين، والقلوب لا تشتاق لمن لم يسكنها حقًا.
حتى يجيء يومٌ، يدركون فيه – بعد فوات الربيع – أنهم لم يزرعوا يومًا جذورًا في أي قلب… ولم يؤسسوا لهم وطنًا في أي روح… لم يتركوا خلفهم ذكرى تُحزن لفراقهم، أو حنينًا يُسأل عنهم.

"دع الأيام تفعل ما تشاءُ... وطب نفسًا إذا حكمَ القضاءُ"
— الإمام الشافعي

وتكون قسوة النهاية آنذاك، ليست عقابًا… بل عدلًا إلهيًّا دقيقًا، يكشف ما زرعته أيديهم بسطحية، وما سكبوه من مشاعر باردة، وما مشَوا فيه من دروب خالية من الوفاء.

فيا من تمر بخريفك الآن… لا تحزن.
فقد يكون هذا الفصل هو هدية السماء إليك، لتتخفّف من أثقال العلاقات الزائفة، ولتُميّز الخيط الأبيض من الأسود في نسيج محبتك ومحبيك.
هو زمن التجريد، حين تذوب الأقنعة وتبقى الوجوه الحقيقية فقط… زمن التصالح مع الذات، حين تُدرك أنك لم تُخلق لتُعجب الجميع، بل لتبقى نقيًّا في عين من يُبصِر الروح قبل الجسد.

 "وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ"
(الأنفال: 24)

"وما أكثرَ الناسِ لو أحببتَهمُ... ولكنّهم في الهَمِّ لا يتفاعلون"
— المتنبي
ليس كل سقوطٍ خسارة، ولا كل ذبول نهاية…
ففي الخريف تتساقط الأوراق لتُفسح المجال لتربةٍ أنقى، وفي خريف الأرواح، تتساقط الزائفات من العلاقات، ليبقى في القلب من يستحق.
فلا تجزع إن فرّ من حولك العابرون، ولا تحزن إن خلا المحيط من الصخب…
فما كان لله باقٍ، وما كان لغيره إلى زوال.
ودع خريفك يمضي… مطمئنًّا، ففي ربيعك القادم، لن يزهر سواك وسوى من غرس فيك حبًّا لا يعرف الذبول.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 1 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.