رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الاثنين 23 يونيو 2025 3:13 م توقيت القاهرة

دماء في بيت الرب… هجوم إرهابي على كنيسة مار إلياس بدمشق

بقلم د/سماح عزازي

"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً"
— القرآن الكريم، سورة النساء: 93

 "الدمُ دمٌ… سواء سال عند مذبح أو محراب، هو جريمة لا تغتفر، في كل شريعة وسماوات الأرض"

في أرض الأنبياء، حيث تتعانق المآذن والأجراس منذ ألفي عام، لم تكن كنيسة مار إلياس في دمشق سوى رمزٍ آخر لصمود الروح السورية في وجه الأعاصير. لكن ليلة الأحد 22 يونيو 2025، انطفأت الشموع وسُفك الدم في قدس الأقداس، حين دوّى الانفجار بين ترانيم الصلاة وأصوات الأبرياء. لم يكن الهجوم الإرهابي الذي استهدف الكنيسة مجرد عمل دموي عابر… بل كان طعنة في خاصرة التعايش، ورسالة سوداء أرادت أن تقول للعالم: لا يزال الحقد يتنكر باسم الدين، ولا يزال الإرهاب يختبئ بين الركام ليضرب حيث لا يتوقعه أحد.

المشهد الدمشقي… حين انفجرت الكنيسة بدلًا من الصلاة
في حي الدويلعة بدمشق، حيث تتعانق المآذن والأجراس منذ قرون، تحوّل مساء الأحد 22 يونيو 2025 إلى كابوس دامٍ. كنيسة "القديس مار إلياس" التي كانت تعج بالمصلين في قداس هادئ، تحوّلت في لحظة إلى مسرح لمجزرة بشعة، حين اقتحم انتحاري المكان وفجّر نفسه وسط الحاضرين، بعد إطلاق النار عليهم.

الهجوم وقائع مأساوية
وقع ذلك مساء الأحد 22 يونيو 2025 خلال خدمات القداس، عندما اقتحم انتحاري يرتدي حزامًا ناسفًا الكنيسة، وأطلق النار داخلها قبل أن يفجّر نفسه أثناء
   
شهد مرافق الكنيسة أضرارًا مروعة: مقاعد محطمة، دماء، وزجاج مكسور — معلومات تم توثيقها عبر الصور ومقاطع تم مشاركتها من قِبَل الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)  .

الحصيلة كانت ثقيلة: أكثر من 22 قتيلًا، بينهم أطفال ونساء، وما يزيد عن 60 مصابًا بجروح متفاوتة. مشاهد الذعر، والصراخ، والدماء التي لطّخت جدران الكنيسة، جسدت حجم الألم الذي خلفته هذه الجريمة النكراء.

 الجريمة رصاص وصلاة… وانفجار
وفق روايات الشهود، دخل المهاجم من الباب الجانبي، وأطلق النار باتجاه المصلين، ثم فجر نفسه وسط ذهول الناس وصيحات التكبير والاستغاثة. بعض المصلين حاولوا منعه، فيما تهشمت النوافذ وتطايرت المقاعد وامتزج صوت الانفجار بترانيم الرعب والدم.

الكنيسة، التي تعد رمزًا تاريخيًا للتعايش المسيحي في دمشق، شهدت واحدة من أسوأ الهجمات منذ سنوات، في وقت كانت العائلات تستعد فيه للاحتفال بعيد القديسين بيتر وبولس.

 الجهة المنفذة عودة داعش من رماد الخراب
رغم غياب إعلان رسمي في الساعات الأولى، فإن التحقيقات الأولية تشير إلى تورط خلية نائمة تابعة لتنظيم "داعش". التنظيم، الذي هُزم عسكريًا في سوريا قبل أعوام، لا يزال يحاول إثبات وجوده عبر هجمات نوعية تستهدف المدنيين، لا سيما دور العبادة والأقليات.

علّقت وزارة الداخلية السورية على أن الانتحاري ينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بينما لم يكلّف التنظيم نفسه مسؤوليته بشكل رسمي حتى الآن  .

تشير تقارير عدد من المصادر، بما فيها رويترز والفايننشال تايمز، إلى احتمال وجود عنصر ثانٍ أطلق قنابل يدوية وبقايا ذخائر داخل الكنيسة، مما يعزز فرضية تنسيق أكثر منه مجرد عمل فردي  .

خبراء أمنيون وصفوا الهجوم بأنه يحمل بصمات داعش التقليدية: استهداف الطوائف لزرع الفتنة، والضرب في القلب الرمزي للمجتمع، واستغلال هشاشة المرحلة الانتقالية لإرباك المشهد.

 موقف الدولة استنكار رسمي ووعود بالرد
أدانت الحكومة السورية الانتقالية برئاسة أحمد الشرع الهجوم بشدة، واعتبرته "جريمة إرهابية ضد الإنسانية ومحاولة لتقويض وحدة الشعب السوري". وتهدف إلي زعزعة الاستقرار وتهديد التعايش الوطني 

وزير الداخلية، أنس خطاب، أعلن حالة الاستنفار الأمني، وتوعد بملاحقة الخلايا المتطرفة. وشدّد أن هذه الأعمال لن تثنيه عن مسيرة تحقيق السلم الأهلي

وزير الإعلام حمزة المصطفى وصف ما حدث بأنه "عمل جبان" وينتهك قيم المواطنة، وأكد التزام الدولة بحماية جميع فئات الشعب

وزير الشؤون الاجتماعية هند كبّوّات زار الكنيسة المنكوبة، 
ووزراء آخرون زاروا الكنيسة لتقديم التعازي، في تعبير رمزي عن وقوف الحكومة إلى جانب المسيحيين فيما أقيمت صلوات وتأبين رسمي لضحايا الهجوم، وسط حضور رسمي وشعبي كبير. كما دعت الحكومة إلى التكاتف الوطني، مؤكدة أن “سوريا للجميع، والإرهاب لن ينجح في تمزيق نسيجها”.

 تضامن عالمي واسع… وإدانات صريحة
لم تمر الجريمة بصمت. توالت الإدانات الدولية من:
_نددت الأمم المتحدة ممثلةً بالمبعوث غير بيدرسون،التي دعت إلى تحقيق شفاف وسريع. مطالبة بإجراء تحقيق شامل ومحاسبة المسؤولين  .

أدانت كلا من اليونان، فرنسا، دول الخليج، تركيا، العراق، الأردن، لبنان، السعودية، الإمارات، قطر، البحرين هذه العملية بشدة، مؤكدين على حماية الطوائف المسيحية  .

الحكومة اليونانية طالبت الجزائر السلطات السورية باتخاذ تدابير عاجلة لضمان أمن مسيحيي البلاد

_الاتحاد الأوروبي الذي عبّر عن قلقه من تكرار استهداف المسيحيين.

_الفاتيكان الذي دعا إلى الصلاة لأرواح الضحايا، مؤكدًا أن "الإرهاب لا دين له".

_الدول العربية مثل مصر، السعودية، العراق، لبنان، الإمارات، الجزائر، وقطر، والتي أصدرت بيانات تضامن مع الشعب السوري، مؤكدين أن استهداف الكنائس جريمة بحق الإنسانية.

الهجوم كشف مجددًا أن الإرهاب لا يستثني أحدًا، وأن العبث بالدم السوري ما زال مستمرًا رغم تغير الحكومات وانتهاء الحروب النظامية.

 ما بعد الهجوم تحديات الجمهورية الجديدة
سوريا التي خرجت مؤخرًا من حقبة بشار الأسد، ما زالت تعاني من تركة ثقيلة: خلايا إرهابية، فوضى أمنية، ومجتمع منهك من الحروب. ومع كل خطوة نحو الاستقرار، تخرج مثل هذه الضربات لتعيد الجميع إلى مربع الدم والخوف.

الاعتداء على كنيسة مار إلياس ليس مجرد جريمة دموية، بل رسالة سياسية خطيرة: مفادها أن التعايش مستهدف، وأن الخلايا الإرهابية تتحيّن الفرصة لتفجير الواقع من الداخل.

الأبعاد السياسية والأمنية
1. تحديات الفضاء ما بعد الأسد
بعد سقوط حكم الأسد في ديسمبر 2024، تقاتلت فصائل متعددة على السلطة. أعلن الشرع في البداية الجمع بين الفصائل لضمان الأمن، لكنه يواجه الآن انتهاكات تنطلق من خلايا داعش النائمة  .

2. الدولة الإسلامية ـ ترنح يلتقط أنفاسه
على الرغم من فقدانه للسيطرة الإقليمية، استمر داعش من خلال هجمات ضد المدنيين، خاصة الأقليات الدينية، كتكتيك لضرب التعايش وتوسيع النفوذ  .

3. دفع نحو العسكرة والميل إلى الفصائل
يعتمد الوضع الأمني حاليًا على مزيج من الجيش والخوذ البيضاء والفصائل المحلية، وقد شهدت دمشق تزايدًا في شبكات الحماية المجتمعية المسلحة ضمن عمليات رُقابة داخلية  .

4. الرسالة السياسية
استخدم الشراّا العملية هجومًا لإعادة تأكيد عهده في الحفاظ على “السلم الأهلي”، ولإظهار الشارع الداخلي والدولي تمسك حكومته بحماية الأقليات والمسيحيين

البُعد الإنساني أجراس الحزن في مدينة السلام
يعيش المسيحيون في دمشق منذ عقود وسط بيئة من التعايش الديني رغم ضغوطات التغيير. هذا الهجوم فتح بابًا واسعًا على موجة من الخوف والقلق.

وصف أحد الشهود:
 “لقد دخل هو وأطلق النار، حاولنا إبعاده ثم فجر نفسه… لقد كنا نرى الناس يموتون أمام أعيننا وهم يدعون الله أن يحميهم”  .

بكاء ذوي الضحايا، ونقل الجرحى على أكتاف المسعفين وسط ذهول المدنيين، يعكس الصدمة التي أصابت المجتمعات المحلية.

الكنيسة كانت مرجعًا روحيًا واجتماعيًا معتمدًا، وهجوم كهذا يفتح انقسامات اجتماعية جديدة ويضع علامة استفهام حول مستقبل حماية التعدد

أمام الكنيسة، كانت امرأة تبكي طفلها المغطى بوشاح أبيض. راهبة ترفع بقايا الإنجيل من بين الركام. وعجوز تقول وهي تهز رأسها: "صلّينا… فماتوا".

لم يكن الضحايا مجرد أرقام. كانوا أرواحًا مؤمنة، جاءت للصلاة فعادت في الأكفان. الكنيسة لم تكن هدفًا عسكريًا… كانت بيتًا من بيوت الله. واستهدافها هو استهداف لضمير العالم بأسره.

 نحو المستقبل ماذا ينتظر دمشق؟
المجال التحديات الفرص
_أمن داخلي استمرار خلايا داعش، هشاشة أجهزة الأمن تشديد الرقابة، تعزيز التعاون الدولي
_ حماية الأقليات تراجع الثقة في الدولة تعزيز الحوار والحماية القانونية 
_وحدة وطنية النزعات الطائفية قد تعاود الظهور استثمار التعاطف الدولي لإعادة البناء المتعدد
_جهة تنفيذية ضعف السيطرة المركزية توافق داخلي مخطط للتقدم

  هل تصمت الأجراس؟
في هذا الشرق المثقل بالجراح، لم تعد المساجد وحدها تُستهدف، بل الكنائس أيضًا. لكن السؤال الآن: هل ستظل الأجراس تدقّ، أم سيصمت الصوت أمام الخوف؟
الإجابة يملكها السوريون. في وحدتهم، وفي رفضهم للطائفية، وفي تمسكهم بقيم العيش المشترك، قد يجدون خلاصًا من هذا الليل الطويل.

في دمشق التي بكت أمس أبناءها المصلّين، تتردد الأسئلة في كل زاوية: إلى متى يبقى الموت ضيفًا على دور العبادة؟ ومن يعيد الطمأنينة إلى طفل فقد والده في قداس المساء؟
لكن رغم الألم، ستظل الأجراس تدق. لن يسكت صوت الصلاة، ولن تنتصر قوى الظلام. فالأمم لا تنهزم بالرصاص، بل حين تنسى مَن هي. وسوريا – برغم الجراح – تتذكر: أنها أرض السلام، وحضن لكل من قال "الله" بمسجد أو كنيسة.

إن هذا الهجوم الإرهابي الجبان، الذي استهدف مكان عبادة مسالم، يحمل معاني رمزية قوية أراد داعش أن يضرب التعايش ويُضعف ثقة المواطنين بالدولة الجديدة. وقد ظهرت الجمهورية الانتقالية في مهب رسائل ضعف أمني، ولكنها وجدت في الوقوف الرسمي، والمدني، والدولي حول متضرري الهجوم فرصة لإعادة بناء «العصبية الوطنية» وتعميق مفهوم السيادة المستندة إلى حماية الجميع.

يبقى السؤال الأكبر: هل هذه المأساة ستكون نقطة تحول نحو استراتيجيات أكثر فاعلية في الأمن والحماية، أم ستتحول إلى حلقة من الهجمات التي تشكك بقدرة الدولة وأجهزتها القائمة على فرض الأمن المستمر؟

 المصادر الموثقة:
1. وكالة رويترز – تقرير بعنوان: Suicide bombing at Damascus church kills 22, 22 يونيو 2025
https://www.reuters.com/world/middle-east/blast-rocks-church-syrias-dama...

2. صحيفة الغارديان البريطانية – تقرير بعنوان: Islamic State suicide bombing in Damascus church kills 22 and injures 63, 23 يونيو 2025
https://www.theguardian.com/world/2025/jun/22/islamic-state-suicide-bomb...

3. صحيفة الفايننشال تايمز – تقرير أمني وتحليلي، 23 يونيو 2025
https://www.ft.com/content/6389ad73-0c15-41af-8a3c-8999c2f99a29

4. وكالة سانا السورية الرسمية – بيانات رسمية وبيانات وزارة الداخلية، 23 يونيو 2025
https://sana.sy

5. موقع Vatican News – بيان الفاتيكان حول الهجوم، 23 يونيو 2025
https://www.vaticannews.va

6. موقع الجزيرة نت – موجز إخباري وردود فعل عربية، 23 يونيو 2025
https://www.aljazeera.net/news/arabic/2025/6/23

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.