الرائد محمد السيد سليمان والملازم باسم شبل
"سفرُ السماء"
بقلم د/سماح عزازي
يا من كتبتم على جناحِ الطائرةِ سِفرَكمْ،
ووقّعتم بالدمِ واليقينِ على آخرِ السطرِ:
"نموتُ لتحيا مصر"..
يا من تقدّمتم على الخوفِ بخطوة،
وابتسمتم للموتِ كمن يلتقي حبيبًا طال غيابُه.
لم يكن البحرُ قبرًا...
بل بوابةً إلى السماءِ السابعة،
هناك حيث الأرواحُ لا تنكسر،
وحيث الطيارون لا يسقطون، بل يُحلّقون أبدًا.
يا محمد، أيها القائدُ الفذ،
قدّمتَ أمركَ الأخير في هدوءٍ عسكريٍّ حاسم:
"اقفزْ يا باسم"،
لكن باسم، الذي شربَ من كأسِ الوفاءِ مبكرًا،
قالها كما يُقالُ القسمُ الأبدي:
"معاك يا فندم"..
يا لجمالِ الطاعةِ حين لا تُصطنع،
يا لعظمةِ القرار حين يُكتبُ
في قلبِ الطائرةِ لا في كتبِ القادة.
شهيدان، لا بكتهما عائلاتهما وحدها،
بل بكتكما سماءُ مصر،
وغنّى لكما النشيدُ الوطنيُ خاشعًا،
وسجدت لكم دموعُ الشرفاءِ في صمتِ التجلّي.
أيها العاشقان لترابٍ فوقه وُلِدتِ البطولة،
ودّعتما الأرضَ كي لا يودّعها الأبرياء،
واخترتما الغيابَ كي تبقى الحياةُ حيّةً في العيون.
سلامٌ عليكما من بحرِ رأس البر،
ومن كل سماءٍ عبرتموها،
ومن كل قلبٍ مصريٍّ قال حين سمع القصة:
"ما زال في هذا الوطن رجال".
يا حارسي الحلم حين ينام الناس،
ويا من استيقظتما على صوت الواجبِ
لا على منبّهِ النجاة.
ما أشرف القرار حين يُكتب في لحظة العُمر،
وما أعظم الإنسان حين يصبح بطلاً
بلا جمهورٍ، بلا كاميرا،
بل بشهقةِ الإيمان، وخطى الرجولة.
يا شهيدي السكون النابض،
لم تكونا طيّارين في مناورة،
بل كنتما في امتحانِ السماء،
حين تُختبرُ القلوب، لا الأجنحة.
يا محمد... كنت تعلم أن النجاةَ ممكنة،
وأن زرّ القفز أقربُ من الموت،
لكنّ ضميرك قال:
"ليس الآن، فثمة أهل، وثمة أطفال،
وثمة وطنٌ تحتك ينتظرُ أن تكون أنت... لا سواك."
ويا باسم، يا زهرةَ الطاعة،
لستَ صغيرًا على المجد،
بل المجدُ هو من كان صغيرًا أمامك،
حين قلتها بهدوء الأبطال:
"معاك يا فندم... ومعاك أموت."
يا مَن ذهبتما إلى الله بخفة الطيور،
وحملتما معكما عبقَ الوطن،
إننا لا نبكيكما من ضعف،
بل من فيضِ فخرٍ لا يُوصف،
من عزّةٍ طافت بنا كأنها رايةٌ تمشي على الأرض.
نم يا محمد، قريرَ العين،
ونم يا باسم، في حضن المجد،
فما زلنا نروي حكايتكما
لكل من ظن أن البطولةَ خرافة،
ولكل من ظن أن الطيار لا يبقى حتى آخر ثانية.
أيا طيفيهما العابرين في دعاء الأمهات،
وفي نظرة الأب الذي كبُر فجأة حين فَقَد،
وفي قلبِ كل طفلٍ سيكبر وهو يردد:
“هؤلاء الأبطال ماتوا لأجلي.”
لم تخلعا بدلة الطيران…
بل ارتديتما ثوبَ الخلود،
وحين ابتعدت الطائرة عن البيوت،
اقتربتما من الله،
كأن السماء كانت تناديكما:
"هلمّا إليّ، يا من صَدَقَا الوعدَ،
ولم يَخونا القسمَ، ولم يخذلا الوطن."
يا من اخترتما البحرَ قُبلةً أخيرة،
ما أغلاه من قرار،
وما أعذبَه من فداءٍ
نُقِشَ في قلوبنا لا في جدران.
حين سقطت الطائرة في المياه،
لم تسقط معها الكرامة،
بل ارتفعت بها،
وما غرقَ منها إلا الحديد،
أما الروح… فكانت تطير.
أيا وطنًا إذا اشتدّ الظلام،
أضاءك رجالُك من فوق الغيم،
احكِ حكايتهم للأطفال في المدارس،
وأنشُد بها في الطابور،
واغرسها في كتب التاريخ لا كحادثة،
بل كأسطورةٍ من أساطير الصدق.
سلامٌ على قلوبٍ نذرت نفسها،
على أكتافٍ حملت أكثر من أجنحة،
على رجلٍ قاد فلم يفرّ،
وعلى شابٍ أطاع فلم يجبُن،
على "محمد" الذي كان أبًا للحظة،
وعلى "باسم" الذي صار ابنًا للبطولة.
يا كلَّ أمٍّ في رأس البرِّ تنتظر عودةَ ابنٍ تأخّر،
يا كلّ سماءٍ بللتها الدموعُ من غير مطر،
لم يسقطوا...
بل صعدوا،
وما غرقوا...
بل عبروا إلى المجد على أجنحة الطاعة.
أيا رائدًا نادى الرحيلَ برجولة،
ويا ملازمًا لبّى النداء لا بالخوف، بل بالحب،
كُتِبَت لكما الشهادةُ كما لا تُكتب إلا للأنقياء،
سطرًا من نورٍ في كتاب الوطن،
وفي كفِّ الله… لا تضيع الأرواحُ التي أخلصت.
يا مصر…
توشّحي بأسمائهما،
علّقي وسام الفخر على سمائك،
واحفري في ذاكرة كل شارع:
هنا مرّ شهيدٌ كان بإمكانه النجاة،
لكنه اختار أن يُنقذنا جميعًا.
إضافة تعليق جديد