البر دين… والدهر يسدّد الفاتورة
بقلم د/سماح عزازي
في حياة البشر لحظاتٌ لا تتجاوز ثواني معدودة، لكنها تقلب المصائر وتغيّر مجرى العمر كله، كحجرٍ صغير يُلقى في بحيرة راكدة فيحرّك سكونها إلى الأبد. تلك اللحظات قد تأتي في كلمة عابرة، أو نظرة صامتة، أو موقفٍ يفضح ما خفي من النفوس. وفي هذه القصة، تبدأ الحكاية من مائدة طعامٍ بسيطة في ليلة زفاف، لكنها تكشف عن معدن رجل، وعن بصيرة امرأة رأت ما لم يره غيرها. في لحظة واحدة، قررت أن تصون مستقبلها وأولادها قبل أن يُولدوا، وأدركت أن من يخذل أمّه اليوم لن يرفع رأس زوجته غدًا. هنا تتجلّى حكمة المثل القديم: “العرق دساس”، فلا يخيّب الدم ظنّه، ولا تُخفي التربية جذورها. ومن بين سطور هذه الحكاية، يتردّد صدى أعظم قاعدة في الحياة: كما تدين تُدان.
في زحام الحياة، لا شيء يكشف معدن الإنسان مثل موقفٍ صغيرٍ عابر. لحظة واحدة كفيلة بأن ترفعك في عيون الخلق والسماء، أو تهوي بك إلى هاويةٍ لا قرار لها. والحكاية التي نرويها اليوم ليست من نسج الخيال، بل من واقع الحياة الذي يُعيد ترتيب القيم ويعيدنا إلى أصل الدرس: البر لا يُقسَّم… وكما تدين تُدان.
في يوم زفافه، جلس شاب إلى مائدةٍ جمعت أمّه وعروسه الجديدة. بظنٍّ منه أنه يُحسن التصرّف، مدّ الطبق الأكبر إلى زوجته، أغدق عليها الكلام الحاني، والابتسامات العريضة، ولم يترك لأمه سوى بقايا الطعام، ولا حتى كلمة تُليق بمقامها الذي تهدّلت عليه سنون التضحية والسهر.
الزوجة – وكانت امرأة أصيلة، حازمة القلب، نقيّة السريرة – رمقته بنظرةٍ صاعقة، ثم قالت بصوتٍ هادئ لكنّه نافذ:
– “طلّقني الآن.”
ارتبك الرجل، ارتعد قلبه، وقال متوسلاً:
– “لماذا؟! ما الذي بدر مني؟ اليوم هو أول يوم في زواجنا!”
نظرت إليه، وأطلقت كلماتها كالسهم:
– “العرق دساس… لا أريد أن أنجب من صلبي ولداً يهينني كما أهنتَ أمك للتو. إن كان هذا نصيب أمك منك، فما الذي سأنتظره أنا؟!”
حاول أن يُثنيها، تراجع، توسّل، لكن المرأة الحكيمة كانت قد حسمت أمرها. تركته… وغادرت.
سنوات مرّت كعمرٍ كامل. تزوّجت المرأة من رجلٍ آخر، رجُل عرف أن البرّ بأمّه شرف، وأن خفض الجناح لها من تمام الرجولة. أنجبت منه أولادًا، ربتهم على حبّ الوالدين، على الإحسان، على أن اليد التي تكرم الأم لا تخذل الزوجة، وأن القلب الذي يبرّ لا يعرف القسوة.
وذات يوم، وهي في سفرٍ على هودجٍ يعلو ظهر ناقة، أبناؤها حولها يحوطونها بالحبّ قبل الظل، ويرفعون عنها وعثاء الطريق قبل الغبار، أبصرت قافلةً تمضي. وفي مؤخرة القافلة، رجلٌ عجوز، حافٍ، يمشي وحده. لا ابن يسنده، لا حفيد يلتفت إليه، لا يد حانية تمسح عرقه.
نادت أبناءها:
– “ائتوني بهذا الرجل.”
اقترب العجوز بخطى ثقيلة، نظرت إليه طويلًا، ثم قالت:
– “هل عرفتني؟”
رفع رأسه المتعب، حاول أن يتذكّر، ثم قال:
– “لا… من أنتِ؟”
أجابته:
– “أنا زوجتك السابقة… ألم أقل لك يومًا: العرق دساس؟ ألم أتركك لأنك أهنت أمّك أمامي؟ أردتُ أن أُنجب أولادًا يرفعون رأسي لا يُذلّونني… فانظر إليّ الآن، هؤلاء أولادي، بارّون، يعتنون بي. وانظر إلى حالك… أين أولادك؟”
سكت الرجل، وانكسرت في قلبه صخرةٌ من الندم، بينما أكملت:
– “هذا جزاء من عقّ أمّه… ضيّع البر، فضاع، وجاءه الردّ كما دان.”
ثم التفتت لأولادها، وقالت بصوتٍ مشبعٍ بالإيمان:
– “اعتنوا به… ليس لأنه يستحق، بل لأنه كبير في السن. أخطأ مع أمه، لكن الله أوسع من خطئه… فلنُكرمه قربةً إلى الله.”
هكذا تعيد الحياة المشهد… وتبدّل الأدوار.
إلى كلّ زوجة:
لا تُفرحي قلبك إذا رأيتِ زوجك يفضّلك على أمه… فالبر لا يُختصر في كفّةٍ على حساب كفّة، ولا يُوزن بالغيرة، بل بالعدل والإحسان.
وإلى كلّ زوج:
لا تظنّ أنّ حبّك لأمّك ينتقص من حبّك لزوجتك… بل هو يزيدك مهابةً في عينيها، ويزرع في قلبها أمانًا تعرف به أن رجلاً بارًّا لن يخذلها يومًا.
الحياة أقصر من أن تُهدر في العقوق، وأقسى من أن تُعاش بغير برّ.
سيأتي يوم، يُعيد فيه الزمن المشهد… لكن على وجهك أنت. حينها، إمّا أن تجد يدًا تمتدّ إليك، أو ظهرًا تُركت خلفه تمشي حافيًا في آخر القافلة.
وهكذا، دارت عجلة الأيام كما تدور منذ بدء الخليقة؛ تُعيد الأفعال إلى أصحابها، وتجعل كل إنسان يتذوق من كأسه التي ملأها بيديه.
الرجل الذي أهمل قلب أمّه وجد نفسه مُهملاً على طرقات الحياة، والمرأة التي رفضت أن تشارك في ظلم أمٍّ بريئة، صارت أمًّا مكرّمة تسير على رؤوس أولادها.
إنها قصة ليست عن زواجٍ وطلاق، ولا عن طعامٍ قُسّم على مائدة، بل عن ميزان الحياة الذي لا يختلّ، وعن الدروس التي تتوارى في التفاصيل البسيطة فتفضح جوهر النفوس.
تذكّروا دائمًا: البر لا يُشطر نصفين، والزمان لا ينسى. ما تزرعه اليوم ستراه غدًا، إما ظلًّا وارفًا أو شوكًا يدمى به قلبك وقدماك.
اللهم اجعلنا من البارين بآبائنا وأمهاتنا في حياتهم وبعد مماتهم، ولا تجعلنا من الذين يبكون في وقتٍ لا ينفع فيه البكاء . فاللهم اجعلنا من الذاكرين لفضل أمهاتنا وآبائنا،
ومن الراعين لهم حيًّا وميتًا، وأبعدنا عن عقوقٍ لا يجلب
سوى خزي الدنيا وحسرة الآخرة.
إضافة تعليق جديد