رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الاثنين 11 أغسطس 2025 11:15 م توقيت القاهرة

سلسلة حكايات من واقع الحياة الحكاية التاسعة عشر صيّاد وزوجته… وحكاية بحر لا يهدأ

 

بقلم د/ سماح عزازي

في كل ركن من أركان هذا العالم، تختبئ حكاية… أحيانًا تراها في أعين الغرباء، وأحيانًا تسمعها في همسات الريح، أو في حفيف الأمواج وهي تعانق الشاطئ.
لكن بعض الحكايات لا تُروى بالكلمات وحدها، بل برائحة الملح، ودفء الكفوف المتشابكة، وبخطوات تجرّها قلوب تعرف أن الرزق ليس مجرد مال، بل حياة كاملة تُبنى بالتعب والحب معًا.

في الفجر، حين ينام العالم في أحضان الصمت، هناك من يستيقظ على وعد جديد مع البحر.
هم لا يطلبون من الحياة قصورًا ولا ذهبًا، يكفيهم أن تعود قواربهم محملة بما يكفي ليملأ الموائد ويزرع في العيون بريق الطمأنينة.
البحر بالنسبة لهم ليس مجرد أفق أزرق، بل هو كتاب يومي، يقرؤونه بعيون متعبة لكنها واثقة، وكل صفحة فيه قد تحمل فرحًا أو اختبارًا، لكنهم يواصلون القراءة حتى النهاية.

إنها الحكاية التي تبدأ قبل أن تستيقظ الشمس، حين يُدفع القارب الخشبي إلى أحضان الموج، ويختلط وجيب القلب بارتطام الماء، وتتشابك الأيدي لا خوفًا من الغرق، بل تأكيدًا على أن الشراكة هنا هي سر النجاة.
هي قصة لا تعترف بترف الخيال، لأنها منسوجة بخيوط الصبر، ومطرزة بعرق الجبين، ومطرّفة بلمعة العيون التي ترى في الآخر سندًا قبل أن ترى فيه شريكًا.

الفجر لم يكتمل بعد، والليل ما زال يمد عباءته السوداء على صفحة البحر، لكن هناك قلبين قد سبقا الشمس في اليقظة.
صيّاد وزوجته، ينهضان على رائحة الملح وصوت الأمواج، يتقاسمان الصمت الممزوج بانتظار يوم جديد، يخبئ لهما رزقًا أو امتحانًا.

الريح باردة، تتسلل بين أطرافهما، لكنها لا تنجح في تجميد دفء النظرات المتبادلة.
هي تمد له كوب الشاي الساخن، يلف أصابعه حوله كأنما يحتضن حلمًا صغيرًا يريد حمايته من الانطفاء.
هو ينظر إليها بعينين أنهكهما الملح والشمس، لكنهما ما زالتا تعرفان معنى الامتنان.

“شدّي الحبل، يا أم ياسر”
هكذا يقول، بينما يدفعان معًا القارب الخشبي إلى عناق الموج.
في تلك اللحظة، لا فرق بين ذراعيه وذراعيها… كلاهما يدفعان في اتجاه واحد، ضد مقاومة البحر وضد صعوبة الحياة.

تنطلق المركب، والمجدافان يرقصان على إيقاع الماء.
هي تراقب الأفق بعين مترقبة، وهو يعرف أن نظرتها تلك ليست فقط بحثًا عن أسراب السمك، بل هي بحث عن الأمان، عن المعجزة اليومية التي تعيدهما إلى الميناء بوجه مشرق.

يبدآن في إلقاء الشباك، والبحر كعادته لا يمنح نفسه بسهولة.
الماء يبتلع الخيوط، ويخفيها في أعماقه، وكأنها أمانة لا يُفرج عنها إلا بعد امتحان الصبر.
يمر الوقت، والسكون يتخلله صوت الموج وصرير الخشب.
وفجأة، تشعر بارتجاج الحبل في يديها، تنظر إليه بعينين تلتمعان، فيبتسم… ابتسامة صيّاد يعرف أن الرزق قد أتى.

يسحبون الشباك معًا، والخيوط تتثقل شيئًا فشيئًا، كأنها ترفع كنوز البحر.
أسماك لامعة، تقفز في الهواء للحظة، قبل أن تسقط في القارب، تلمع قشورها تحت خيوط الشمس التي بدأت أخيرًا تزورهم.

هي تضحك… ضحكة قصيرة لكنها عميقة، ضحكة من يعرف أن هذا الصيد لم يكن مجرد رزق، بل انتصار على قسوة يوم جديد.
هو يرد ضحكتها بنظرة تقول: “طول ما إحنا مع بعض، البحر ما يخوفش”.

في طريق العودة، الموج صار أكثر هدوءًا، والريح تحمل رائحة السمك الطازج، وكأنها تبشّر الميناء بقدوم الفرح.
على الشاطئ، يستقبلهما بعض الصغار يركضون، وأصوات الباعة تعلو، والنهار قد استيقظ بالكامل.

قبل أن تترجل من القارب، تلمس يده في صمت… لم يكن ذلك شكرًا فقط، بل كان عهدًا جديدًا: أن يظلا معًا، مهما اختلفت أمواج الأيام.

في حياة الصيّاد وزوجته، البحر ليس مجرد مصدر رزق، بل مدرسة للحب والصبر.
المجداف الذي تمسكه بيديها، والشبكة التي يرفعها بيديه، ليست أدوات عمل فقط، بل رموز لشراكة حقيقية، شراكة لا تعرف أنانية، ولا تنكسر أمام الرياح.

كل رحلة صيد هي تذكير بأن الرزق ليس دائمًا في حجم ما نصطاد، بل في دفء من يشاركنا الصيد.
قد يكون البحر واسعًا، لكنه أمام قلبين متآلفين يصبح صغيرًا، مطواعًا، يمنح خيره لمن يحسن الانتظار.

وفي النهاية، تعلّمنا حكاية الصيّاد وزوجته أن الحب الحقيقي هو ذاك الذي لا تذروه الرياح، بل يرسو على ميناء الأمان، مهما اضطربت الأمواج.
فالاهتمام، والوفاء، والعمل المشترك… هي الشباك التي تصطاد الحياة بكل جمالها، حتى في أصعب أيامها.

حين يعود القارب إلى الشاطئ، لا تنتهي الحكاية…
فالرحلة ليست فقط بين الميناء والبحر، بل هي بين قلبين عرفا أن البقاء معًا هو الصيد الأثمن، وأن الرزق الحقيقي هو الأمان الذي يمنحه وجود الآخر.

على شاطئ الحياة، سنبقى جميعًا صيادين، نلقي شباكنا في أمواج الأيام، نصطاد أحيانًا الفرح، وأحيانًا الخيبة، لكن ما يصنع الفرق هو اليد التي تسحب الشباك معنا، وتبتسم رغم ثقلها.

لقد علّمتنا هذه الحكاية أن الحب لا يُقاس بالكلمات، بل بالمواقف التي تكتب نفسها على صفحة العمر.
وأن الاهتمام ليس ترفًا، بل هو ملح الحياة الذي يمنعها من التعفن، وهو الريح التي تدفع قاربنا الصغير وسط محيطٍ لا يرحم.

قد يعلو الموج، وقد تشتد العواصف، لكن طالما كان هناك من يشاركنا المجداف، لن نخشى التيه.
وفي النهاية، سيبقى البحر، وستبقى الأمواج، لكن الأثر الأجمل هو ذاك الذي يتركه إنسان في حياة إنسان… كحكاية صياد وزوجته، التي ستظل، ما بقيت الحياة، مثالًا على أن الرزق الأوفى يسكن القلوب، قبل أن يملأ الشباك.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
10 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.