رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 1 مايو 2025 2:28 م توقيت القاهرة

عيدُ العُمّال... أنشودةُ الكدحِ ومواويلُ العرق

بقلم د/ سماح عزازي

حين يصير العرق وسامًا، والسواعد عنوانًا للوطن...
في زحمة الأيام وتقلّبات المواسم، يبقى الأول من مايو
 علامة فارقة لا تمحوها الذاكرة. إنه صوت العامل حين يصمت الجميع، وموعدٌ سنوي يُسلّط الضوء على من اعتاد
 أن يعمل في الظل. في هذا اليوم، يقف العالم إجلالًا للذين
 لا تُكتب أسماؤهم في العناوين الكبرى، لكنهم يشكّلون أعمدة المجتمعات. إنه عيد العُمّال... العيد الذي لا يعرف الترف، بل يعرف الشقاء المجبول بالشرف

لم يأتِ عيدُ العمال من فراغ، بل خرج من رحم النضال، حين وقف العمّال في أواخر القرن التاسع عشر، يطالبون بحقوقٍ عادلة وظروف عمل إنسانية، بعد أن أنهكتهم ساعات العمل الطويلة وسُحقوا تحت عجلات الجشع الصناعي. في مدينة شيكاغو الأمريكية عام 1886، دوّى صوتهم في مظاهرات صاخبة للمطالبة بثماني ساعات عمل يوميًا، فكان الرد قمعًا وسجونًا ودماءً، لكن شرارة الكرامة اشتعلت، ومن رمادها وُلد هذا اليوم، ليكون شاهدًا على أن اليد التي تعمل، قادرة أيضًا على أن ترفع راية الوعي والمطالبة بالعدل

في الأول من مايو، لا نحتفل بيومٍ عابرٍ على رزنامة الأيام، بل نحتفي بالعرق المتصبب من جباه الرجال والنساء، باليد التي تخشنّت من طول العمل، وبأحلامٍ حملتها السواعد على أكتاف التعب. إنه عيدُ العُمّال، أولئك الذين يسندون عجلة الوطن بعرقهم، ويشيّدون الحضارات من لُبنات الألم.

العمال ليسوا فقط مَن يقفون في المصانع أو تحت وهج الشمس في الحقول، بل هم من ينسجون تفاصيل الحياة اليومية: عامل النظافة الذي يسبقنا إلى الطرقات، والسائق الذي يحملنا بين الجهات، والمعلم الذي يزرع الأمل في عقول الغد، والطبيب الذي يسهر بين أروقة الألم، وكل من يعمل بصدق وإخلاص ليصنع من الشقاء قيمة، ومن التكرار جمالاً.

 ولأن الحديث عن العمال لا يكتمل بالأرقام أو الشعارات، بل بالوجوه التي تنبض في تفاصيل الحياة، فلننظر في ملامحهم عن قرب، وننصت لصمتهم الصاخب، لنعرف كيف تُبنى الأوطان حقًا، لا من خلف المكاتب، بل من عُمق التعب.

قال أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
 "إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً، لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة."
هكذا فهمت الحضارة الإسلامية قيمة العمل، لا باعتباره وسيلة للرزق فحسب، بل طريقًا للكرامة والمعنى. ومن هذا المنطلق، تتجلى أمامنا نماذج من عمّال هذا الوطن ممن يستحقون أن تُروى حكاياتهم لا أن تُطوى

المعلم... شمعة تُنير وتذوب
المعلم... ذاك الذي يقف كالشمعة بين جدرانٍ صامتة، يُشعل الفكر في عقول الآخرين بينما ينطفئ بهدوء. يحمل طباشيره كما يحمل رسالته، يصوغ الأجيال بكلمة، ويبني العقول كما تُبنى الأوطان. كثيرًا ما يُنسى، كثيرًا ما يُهان، ومع ذلك يُعلّم الصبر كما يُعلّم النحو، ويُربي الضمير كما يُدرّس التاريخ. أفلا يستحق من الدولة والمجتمع أن يُكافأ لا أن يُساء؟ أن يُكرّم لا أن يُهاجم

عامل البناء... يتقن الحلم ولا يسكنه
تأمّلوا عامل البناء، يقف على حافة الطوابق العالية، تحته فراغٌ يبتلع الأرواح، وفوقه سماء لا تعبأ بمن يسقط، لكنه يواصل، يحمل الطوب كما يحمل الحلم، يشدّ الحديد كما يشدّ أضلاع البيت، يزرع الأعمدة كما تُزرع الأشجار. لا يملك إلا يدين متشققتين وقلبًا لا يعرف إلا الصبر، ومع ذلك يشيّد بيوتًا لا يسكنها، ويُقيم أبراجًا لن تطأها قدماه... فهل نكافئه بالنسيان؟

عاملة النظافة... الصامتة النبيلة
وانظر إلى عاملة النظافة، تخرج قبل الفجر، تكنس الطرقات من بقايا المدينة التي نامت متخمة، بينما هي لم تذق من الحياة سوى الفتات. تمضي بصمتٍ نبيل، تزيل القاذورات وتُعيد للنظام هيبته، دون أن يسمع أحد صوت أنينها أو 
يسأل عن حاجتها. في كل يوم تزرع النظافة وتقطف اللامبالاة. تُعاقَب بالفقر، وتُكرّم بالتجاهل... فهل نُدرك أن الكرامة تبدأ من احترام من يصون وجه مدننا النظيف؟

 هؤلاء ليسوا مجرد نماذج، بل شواهد حية على أن نهضة الأوطان تبدأ من احترام من يصنعونها، وأن أي حديث عن التقدم يظل ناقصًا ما لم يبدأ من إنصافهم.

وكما قال محمود درويش: 
"كأننا نملك الأرض، ونحرثها بالكلمات. لكن من يملك الأرض حقًا، هو من يُبلّلها بالعرق."

والعدلُ، كما قال ابن خلدون: 
" هو أساس العمران، والظلم هدمٌ لما بنته السواعد."

فلنعد النظر، لا في خطابنا فقط، بل في ضمائرنا... لعلّنا نستحق أوطاننا كما يستحقها أولئك الصامتون العظام.

في زمنٍ طغى فيه المال على المعنى، والتربّح على القيمة، بات العامل في بلادنا في حاجةٍ إلى أكثر من احتفال، في حاجة إلى قانونٍ يحميه، وأجرٍ يكفيه، وكرامةٍ لا تُهان.

في ظل الضغوط الاقتصادية الراهنة التي تمرّ بها مصر..
 وتقلّبات معيشية، تتضاعف معاناة العمال، لا سيّما من
 يعملون بأجور يومية أو في القطاع غير الرسمي. فارتفاع تكاليف المعيشة، وتآكل قيمة الأجور، وانخفاض القدرة الشرائية، كلها عوامل تُثقل كاهل العامل البسيط، الذي بات يحمل أعباءً لا تليق بما يقدّمه من جهد. ومع كل موجة تضخم، تتراجع أحلامه أكثر، ويزداد شعوره بالتهميش والخذلان وكأن الوطن نسي من يبنيه

فبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن أكثر من 12.5 مليون عامل في مصر يعملون في القطاع غير الرسمي، دون تأمينات أو حماية قانونية،

 وهو ما يعكس حجم التحديات التي تواجه العدالة الاجتماعية الحقيقية. فكم من عاملٍ مات صامتًا تحت ركام الإهمال؟ وكم من شريفٍ حُرم من أبسط حقوقه لأنه لا يملك غير يديه؟

ليكن هذا العيد وقفة مراجعة، لا مجرد خطب وورود. نريد عيدًا تُصرف فيه الحقوق لا الوعود، وتُكرَّم فيه السواعد لا تُكسر، وتُسمع فيه أصوات العمال لا تُقصى. فالعامل لا يحتاج لمن يتغنى باسمه، بل لمن يرد إليه اسمه وحقه.

أكثر من عيد... بل عقدٌ اجتماعي جديد
يا من بيدكم القرار، لا تجعلوا عيد العمال مجرّد ذكرى، بل اجعلوه بداية لعقدٍ اجتماعي جديد، أساسه العدالة، وركيزته الكرامة، وسقفه الإنسانية. فالوطن الذي يُهين عمّاله، يهين مستقبله، والوطن الذي يرفعهم، يرفع رايته خفّاقة بين الأمم.

لقد آن الأوان أن نعيد النظر في مفهوم "العمل" لا كوسيلة للكسب فقط، بل كقيمةٍ إنسانية تُقاس بها حضارة الأمم. فالمجتمعات التي تُنصف عمّالها، هي التي تُمهّد الطريق نحو عدالة اجتماعية حقيقية، وتُرسي قواعد التنمية المستدامة على أرضٍ صلبة. أما تلك التي تُهملهم، فهي تبني أوهامًا على رمالٍ زاحفة.

إن عيد العمال ليس مناسبة للخطابة، بل اختبار لصدق التوجهات وميزان للإنصاف. فحين يُكرَّم العامل في واقعٍ لا في شعارات، نكون قد وضعنا أقدامنا على أول الطريق نحو وطنٍ يُنتج بكرامة، ويعيش بكرامة.

كل عام وعمّال مصر والعالم بخير... أنتم منارة الكدح، وسفراء الحياة، وروح هذا الوطن المتعب.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.