رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 10 يوليو 2025 8:20 م توقيت القاهرة

السلسلة الادبية في حضرة الغياب... كل شيء ينكسر

المقال الاول في حضرة الغياب... تبدأ الحكاية  

 بقلم د/سماح عزازي

 في حضرة الغياب... حيث يتحوّل الوجع إلى هواء
ثمة أشياء لا تُقال، بل تُحَس.
ثمة وجع لا يصرخ، لكنه يُقيم في تفاصيلك كل يوم، ويوقظك في منتصف الليل دون سابق إنذار، ويُربك نبضات قلبك حين تمرّك ذكرى.
الغياب يا سادة، ليس موتًا فقط... بل هو ذلك الفراغ الصامت الذي يتركه الراحلون في أرواحنا، ذلك الصمت المطبق بعد ضحكات كانت تملأ المكان، تلك النظرة التي لا تعود، وذلك الاسم الذي يُنادى به في أحلامنا أكثر مما يُقال في الواقع.

في حضرة الغياب، لا يُجدي الصبر، ولا تُسعفنا الكلمات.
نُصبح هشّين، كأوراق خريف سقطت من شجرة الونس، تتبعثر في مهبّ الذكرى.
نُحادث الصور كأنها تنبض، ونُخاطب الوسائد كأنها تفهم، وننتظر... ننتظر بلا وعي، بلا مواعيد، بلا أمل... فقط لأن في القلب صوتًا لا يُكفّ عن النداء.

هل جرّبت يومًا أن تشتاق لضحكة؟
أن تبحث عن وجهٍ في الزحام رغم يقينك أنه لن يكون؟
أن تسمع في داخلك صدى "كان هنا"، وتبكي لأنك لا تستطيع إعادته؟

الغياب لا يطرق الأبواب، بل يقتحمك دون مقدمات، يسرق منك ملامح الحياة، ويزرع مكانها مرارة الحنين.
هو ذلك الزائر الثقيل الذي لا يرحل، ولا يهدأ، ولا يُنسى.
هو الغصة التي تسكن الحلق، والنار التي لا يطفئها ماء الزمن، والمكان الذي لا يملؤه أحد... مهما جاء من بعده.

 الغياب... تلك الحضرة التي لا تُرى ولكن تُوجَع
هناك مساحات لا يسكنها أحد، لكنها تُضيء بذكرى من غابوا.
وهناك مقاعد فارغة، لكنها أثقل من الجبال، لأنها محمّلة بأرواحٍ كانت هنا، وكانت لنا، ثم أخذها القدر في لحظة صمتٍ مُباغت، فخفت الصوت، وانطفأ النور، وبقي الوجع.

في حضرة الغياب... لا تُسمع الضحكات، ولا يُرى الضوء كما كان، ولا تستقيم الحياة كما اعتدنا.
في حضرة الغياب... كل شيء ينكسر. القلب أولًا، ثم الوقت، ثم الأماكن، ثم نحن.

الغياب لا يطرق الأبواب، ولا يستأذن. يأتي كعاصفة في ليلة هادئة، يبعثر الصور من على الجدران، ويمحو الأسماء من النداء، ويتركنا نعانق الظلّ، وننام إلى جوار ذكرى.

هو الغياب الذي لا يُرى، لكنه يوجع أكثر من ألف فُقدان.
هو الحضور الدائم للذين رحلوا، دون أن نودّعهم كما ينبغي.
هو الذكرى التي تمشي بيننا، وتهمس لنا: "هنا كان من تحبّ، وهنا لم يعد".

ما أقسى أن يُصبح الحنين عادة. أن تستيقظ كل صباح وفي قلبك فراغٌ بحجم من غاب.
أن تُمسك هاتفك لتبحث عن رسالة لن تأتي، أو أن تنتظر اسمًا يظهر في زاوية الشاشة، وأنت تعرف تمامًا أنه لن يعود.

في حضرة الغياب، تُصبح الذكرى وطناً، والصورة صديقًا، والعبارة الأخيرة التي قيلت لنا قبل الرحيل، كتابًا نعيد قراءته كل ليلة.
الذين غابوا، لم يغادروا تمامًا، بل استقروا في زوايا القلب، يُربكون نبضه، ويُشعلون في عروقه نار الشوق كلما مرّ طيفهم أو عبيرهم.

هناك غيابٌ يجعل منك شاعرًا، وآخر يجعلك أنقاضًا.
هناك من يغيب عن العين، فيُزهر في القلب، وهناك من يغيب، فيجفّ كل ما فيك.

في الغياب، لا تمرّ الساعات كما يجب، بل تتثاقل، كأنها تُعاند الزمن الذي سرق منّا من نحب.
نُحاور المقاعد الفارغة، ونربت على وسائد لم يعد عليها دفء، ونتفقّد نوافذ مغلقة على حكايات لم تكتمل.

ونتساءل بصوتٍ خافت:
– هل يسمعنا الغائبون؟
– هل يشعرون بدموعنا؟
– هل يروننا ونحن نُخبّئ صورهم تحت الوسائد ونُصلي لهم في الخفاء؟

كل شيءٍ في الغياب يُوجع:
الضحكة التي كنا نضحكها معًا، ولم تعد تليق بنا وحدنا.
الطريق الذي كنّا نعبُره يدًا بيد، وأصبح الآن طويلاً كالعُمر، موحشًا كالقبر.
حتى الكلمات... صارت مُقطّعة، خرساء، كأنها تبحث عن من تُقال له، فلا تجد.

عن الليل حين يصير مقبرة للحنين
في الليل... تتكشّف الندوب، وتفقد الأقنعة صلابتها.
يأتي الغياب بكل ثقله، ويجلس إلى جوار القلب، كما يجلس الضيف الثقيل الذي لا يُغادر.
تُصبح الغرفة أوسع مما تحتمل، والسرير أبرد مما ينبغي، وكل شيء في المكان يُذكّرك بمن رحل.
الوسادة التي كانت شاهدة على أسرار البوح، باتت اليوم تُخبئ الدموع في صمت،
والساعة المُعلّقة على الجدار توقّفت عن الزمن الحقيقي، وصارت تدور حول لحظة واحدة: تلك التي غاب فيها من نُحب.

الليل لا يرحم القلوب التي تنتظر.
هو مرآة الروح المُتعبة، يسلّط الضوء على الشقوق التي نُخفيها في النهار،
ويجعل من الذكرى عرضًا سينمائيًا طويلًا، نُشاهده وحدنا، نرتجف من تفاصيله، ونبكي في ظله، ولا أحد يُصفق حين ينتهي.

في الليل، يصبح الحنين عطرًا كثيفًا يخنق، وصوتًا في الرأس لا يسكت،
وخيالًا يعبر أمامك كأنه واقع، تمدّ يدك فلا تلمس شيئًا، تُنادي، فلا يرد أحد.

وهكذا نكتشف أن الفقد لا يحدث مرة واحدة،
بل يحدث كل ليلة،
كلما أوصدنا الأبواب، وأطفأنا الأضواء، وجلسنا وحدنا نُحدّق في فراغٍ يشبهنا.

الغياب لا يُقاس بالزمن، بل بالأثر.
هناك من يغيب ساعة، فتشعر أنه لم يرحل قط، وهناك من يغيب عمرًا، ولا تزال رائحته في المكان، وصوته في الذاكرة، واسمه في دعائك.

أصعب أنواع الغياب، هو غياب من لا نملك نسيانهم، ولا نجد لهم بديلًا، ولا نستطيع البوح بوجعهم.
نُجالس الناس، ونضحك معهم، وفي داخلنا مقبرة صاخبة بالأسماء.
نمشي بين الزحام، وفي أرواحنا عُزلة لا يعرفها سوانا.
نُخفي الحنين كجريمة، ونُخفي الصور في الأدراج، ونكسر أعيننا كلما مرّت الذكرى.

الغياب لا يشبه الغياب فقط، بل يشبه الموت، والغصة، والانطفاء، والتيه.
هو درسٌ قاسٍ في الصبر، والصمت، والانتظار الذي لا نهاية له.

لأن الغياب لا يعتذر... ولكنه يظل حاضرًا
لماذا لا يُعطينا الغياب مهلة؟
لماذا لا يهمس في آذاننا: "استعدّوا... سأغادر من تحبّون"؟
لماذا يأتي دائمًا على حين غفلة، فيُربكنا، ويكسرنا، ثم يتركنا نلملم ما لا يُلملم؟

في حضرة الغياب... نكسر صمتنا بالحنين، ونكسر قوتنا بالبكاء المؤجّل، ونكسر كبرياءنا برسالة لا نُرسلها، ونداء لا نُجهر به.

نحن الذين بقينا بعد الغياب، نحمل صورهم كالتعاويذ، ونحفظ أصواتهم كالأناشيد المقدّسة، ونفتّش عنهم في الأحلام، لعلّ النوم يفتح لنا بابًا نمرّ منه إليهم.

وفي النهاية، نُدرك أن الغياب لا ينتهي، بل يُغيّر شكله.
نعتاد حضوره، كما اعتدنا حضورهم يومًا.
نتعلّم أن نُصافح الحياة بيدٍ واحدة، لأن الأخرى ظلت ممدودة في الهواء تنتظرهم.

الغائبون لا يموتون... بل يتحوّلون إلى طقوس حب
الغائبون لا يغيبون حقًا.
هم أول من نُحدّثهم حين نرتبك، أول من نحكي لهم بصمت حين يخذلنا الواقع،
أول من نُشعل لهم شمعة في القلب كلما أظلمت الدنيا.

نحن لا ننسى الذين أحببناهم، نحن فقط نُعيد ترتيب حضورهم.
نُحوّلهم إلى دعاء في السجود، إلى دمعة على أطراف الابتسامة،
إلى وردة نضعها على الطاولة دون سبب، إلى فنجان قهوة نُحضّره كما كانوا يُحبونه، ثم نتركه يبرد في مكانهم.

نُحدثهم عبر الأغاني، عبر الكتب، عبر العطر،
نحمل وجوههم معنا في زحام الأيام، كمن يحمل وطنه في جيب قلبه،
وحين يسألنا أحد: "هل نسيت؟" نبتسم بتعب، لأننا نعرف أن النسيان خرافة، وأن الغياب لا يُمحى، بل يُتعايش معه، كظلٍّ لا يفارقك أبدًا.

الغائبون يتحوّلون إلى طقوس حبٍ نمارسها في السر،
نُرسل لهم رسائل في الهواء، نكتب أسماءهم على الرمال،
نضع لهم وردًا في القلب، ونُبقي الباب مواربًا للحظة لقاءٍ لا نعرف متى، لكننا نؤمن أنها ستأتي.

الغياب لا يغيب... بل يسكننا بشكل آخر
وفي النهاية...
ليس كل من رحل غاب، ولا كل من غاب رحل.
بعض الغياب يُقيم فينا إقامة دائمة، لا نستطيع طرده، ولا نملك التفاوض معه، لأنه صار جزءًا من نسيج أرواحنا.
هو الحنين الذي نحمله معنا إلى حيث نذهب، هو النقص الذي لا يُعوّض، هو الصوت الذي لا يسكت، والصورة التي لا تُبهت، والأثر الذي لا يُمحى.

الذين غابوا، لم يأخذوا أشياءهم فقط... بل أخذوا قطعة منّا معهم.
تركوا أرواحنا مثقوبة، تنزف عند كل ذكرى، وتئنّ عند كل مساء، وتغرق في صمتها عند كل موسمٍ كان يجمعنا بهم.

نعم، في حضرة الغياب، كل شيء ينكسر:
ينكسر الوقت الذي يمضي ببطءٍ قاتل،
ينكسر الحرف حين نحاول أن نكتبه فلا يُنصفنا،
ينكسر القلب... لأنه لا يتعلّم أبدًا كيف ينسى.

لكننا مع ذلك، لا نكفّ عن الحنين.
نحب رغم الألم، نُصلّي رغم الغصة، نبتسم رغم الدموع، ونُخبئ في قلوبنا زوايا مقدّسة لمن غابوا، نُشعل فيها شموع الوفاء، ونُردّد كل ليلة بصوتٍ مكسور:

"ما زلتُ أحبك... حتى وإن كنت غائبًا.
ما زلت أراك... في التفاصيل الصغيرة.
ما زلت أعيش... فقط لأحملك داخلي، حتى نلتقي."

ويبقى الأمل... الأمل الوحيد، أن يكون الغياب بوابة للقاء، في زمنٍ لا يعرف الفقد، ولا الفراق، ولا الدموع... زمنٍ نعود فيه كما كنّا، بلا حزن، بلا حنين، بلا كسر.

بقلم د/سماح عزازي 
لن تُشفى القلوب من الغياب، لكنها ستتعلّم أن تنبض
 برفق، أن تحيا بما تبقى، وأن تُحبّ رغم كل شيء.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
5 + 6 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.